«مجالس العزا» مظاهر للمقاومة أم سكرة الموت؟

من موقع esyria.sy

لا تفوت المراقب العاديّ، من أهالي مدينة دير الزور، ملاحظة التغيّرات التي طرأت على أساليب تعزية أهالي المتوفين. إذ لم يعد مسموحاً رسمياً، في ظلّ "الدولة الإسلامية"، تلاوة سورة يسين أثناء الدفن، وقراءة الفاتحة عند الدخول إلى مجلس العزاء، (بدعوى أنها بدعةٌ لدى شرعيي التنظيم ومناصريه). كما توقف الناس عن إرسال ما يعرف بـ"الغرف والجبران" إلى أهل المتوفى (الغرف أكياس رزٍّ او سكّرٍ أو وجبات طعامٍ لعددٍ كبيرٍ من الأشخاص، أما الجبران فهو مبلغٌ ماليٌّ بحسب الاستطاعة ودرجة القرابة من المتوفى) بسبب الضائقة المالية، وكثرة ضحايا القصف. لكن هذا ما يجري على السطح، أما الواقع فهو شيءٌ آخر.

تعدّ مجالس العزاء، في عموم سوريا، من مظاهر التضامن الاجتماعيّ، ومن النشاطات الأهلية الراسخة في منظومة العادات والتقاليد. وتشكّل فرصةً للتعارف بين الأقرباء، وباباً للمصالحات بين المتخاصمين. وقد استقرّت مظاهر تلك المجالس عبر السنين، لتشكّل عرفاً لا يُخرج عنه إلا في النادر؛ فلمدّة ثلاثة أيامٍ يتوافد فيها الناس إلى مجلس العزاء، تُدار القهوة العربية المرّة على الحضور في بيت الشعر أو الخيمة، وتُتلى آيات القرآن الكريم (بصوت عبد الباسط عبد الصمد خاصةً)، وتقدّم الولائم للمعزّين. يتذكر أبو محمد، من أهالي دير الزور: "أن الدعوة إلى ترك بعض طقوس التعزية تعود إلى ما قبل الثورة بعدّة سنواتٍ، إذ كانت محاربة هذه الطقوس واحدةً من الأنشطة الرئيسية للمتأثرين بالتيار السلفيّ، في محاولاتهم لإقناع مجتمعاتهم بنظرتهم الخاصّة إلى هذه الطقوس باعتبارها بدعة، دون أن تكون لتلك المحاولات نتائج هامة". ومع بداية الثورة استمرّ الناس على سابق عهدهم في التعزية، بل صار الدفن مصحوباً بالهلاهل (الزغاريد) والهتافات لضحايا رصاص الأمن. وصارت مجالس التعزية بهم مناسبةً تكاد تكون وطنيةً -يجتمع فيها عشرات الآلاف- يؤكّد فيها المعزّون على تضامنهم مع أهل الضحية، وتصميمهم على الاستمرار في الثورة، وتحدّيهم لسلطة الأمن الذي حاول مفاوضة الأهالي، في أحيانٍ كثيرةٍ، على عدم إقامة مجلس العزاء مقابل منحهم تعويضاً مالياً أو راتباً تقاعدياً (في حال كان الضحية موظفاً).

وبعد انتشار السلاح، وبدء قصف المدن، لم يعد هناك وقتٌ أو ظروفٌ مناسبةٌ للقيام بتلك الواجبات التي تتبعها عادةً التربة والأربعينية والخمسينية والمولد.. كما أن تشتت شمل العائلات جعل من الصعب الاجتماع على نطاقٍ واسعٍ، لكنه كان فرصةً لتفادي العداوات التي خلفتها الآراء والانتماءات السياسية. يقول أبو محمد عن تلك المرحلة: "لما كانت تجتمع الناس بالتعزيب -مدنيين وجيش حرّ وجبهة نصرة وأحرار شام...- تبيّن لبعضها أنو صحي مختلفين بس نظلّ أهل". وكانت مجالس العزاء وقتها مجالاً للمناكفات التي لا تخلو من طرافة، فقد كان البعض يتحرّى "أهل اللحى" عند الدخول، فإذا وجدهم امتنع عن قراءة الفاتحة. أما البعض الآخر فكان يتقصّد قراءتها بوجودهم، لينبري الحضور عندها بالغمز والإشارة لمنعه.
اليوم، في ظلّ التباينات بين ما ورثه الأهالي وما يُراد فرضه عليهم بالقوة، تبدو مجالس العزاء ملتزمةً بخطّ التنظيم عند من له صلةٌ بعناصره، أما في الأوساط الشعبية البعيدة عنهم فلا يزال الناس متمسّكين بما ألفوه من طقوسٍ (عندما يكون الأمر أهلية بمحلية). بل أكثر من ذلك، إذ يظهرون مغالاتهم في إحياء عاداتٍ تكاد تكون مندثرةً (كتوزيع السجائر على المعزّين، وفضّ –توزيع- الأكلة التي كان المتوفى يحبّها على المعارف...). فهل هو الشعب يقاوم -بصمتٍ ودون تخطيطٍ- ما يُفرض عليه بالقوّة؟ أم أن هذه العادات، بنكوصها المستمرّ، تلفظ أنفاسها الأخيرة؟