(جهز العشاء. سأعود بعد نصف ساعة).. حكاية معتقل من داريا

عند الساعة الثامنة من إحدى ليالي منتصف 2012 قال لي صديقي الذي تقاسمت معه إحدى الشقق في مدينة داريا "أنت جهز العشاء. وسأعود بعد نصف ساعة"؛ لبس ثيابه، وفتح باب الشقة التي كانت في الدور الرابع بكل حذر، فقد كنا نقيم في هذا المكان سراً بهدف إنشاء جهاز استخبارات مصغر مهمته التنصت على المكالمات اللاسلكية التي تجريها دوائر النظام الأمنية والعسكرية، قال لي صديقي مازحاً قبل إغلاق الباب "سأعود لأغسل الصحون، أعرف أنه دوري الليلة".

قبل شهر، طرحنا على أحد قادة الجيش الحر، ويدعى أبو تيسير، تطويراً لمشروعنا؛ كان صديقي الممتلئ حماسة واندفاعاً في غاية الفرح، حين تسلمنا جهازاً ضخماً يمكننا من الاستماع إلى الموجات اللاسلكية التي يتواصل من خلالها النظام. طلب منا أبو تيسير استئجار شقة وسط المدينة، وأعطانا مبلغ 50 ألف ليرة، مع لابتوب وشريحة نت. عثرنا على شقة مناسبة، ووقعنا عقد الإيجار لثلاثة أشهر. كذب صديقي حينها على صاحب البيت، قائلاً إنه سيتزوج قريباً وسيجهز هذه الشقة لتكون عش الزوجية المؤقت، ريثما يتمكن من بناء بيت صغير في المدينة.

اشترينا كل ما يلزمنا لتجهيز الشقة التي أسميناها (الوكر). جرة غاز، براد، مروحة، وأغطية ووسائد، إضافة لعشرات علب التونا والسردين والإندومي التي كان صاحبي يعشقها بشكل مدهش. كان المطلوب ألا نخرج من الشقة إلا في حالات الضرورة القصوى، وإلا كشف أمرنا في المدينة التي تعج بدوريات الأمن ومدرعاته في الليل كما في النهار.

فكرة المشروع تقوم على مراقبة جميع المكالمات التي يجريها ضباط وعناصر النظام، سواءً على حواجز النظام أو عندما يتم إعطاء الأوامر بمداهمة إحدى المدن، وحتى خلال عملية المداهمة. وظيفتنا لم تكن مجرد الاستماع، بل كنا أعضاء في عشرات الغرف الثورية المغلقة، وساعدنا هذا على تزويد الثوار بمعلومات هامة. في إحدى المرات أصدر النظام تعليمات بمداهمة حي التضامن فجراً، وسرعان ما أخبرنا ثوار الحي بهذه المعلومة، ليتجنبوا الاعتقال.

عند نشوب المعارك كنا نراقب التعليمات والأوامر الصادرة عن قيادة النظام، ونبثها بشكل فوري إلى الجيش الحر للاستفادة منها؛ وأثناء مداهمة النظام لمدينة داريا كانت التعلميات صارمة، سمعنا الضابط يعطي الأوامر بإطلاق النار على كل تجمع مؤلف من ثلاثة أشخاص فما فوق، تسريبنا المعلومات جنب النشطاء والأهالي القتل خلال خروجهم من المساجد بعد تأدية صلاة الجمعة.

لكن هذا المشروع لم يدم طويلاً.. طبع صديقي غلبه كما هي العادة، لم يلتزم بالقوانين الصارمة التي وضعناها، وصار يخرج عدة مرات في اليوم. "أمامي العديد من الأعمال"، يقول صديقي بينما تلتمع عيناه الذكيتان بوهج خاص لم يكن موجوداً إلا في الرجال الأوائل الذين حملوا الثورة على كواهلهم. "علي جمع المبالغ المالية لتقديمها للجنة الإغاثية". ابتكر صديقي طريقة لتحصيل الأموال لصالح الثورة، كان هذا قبل دخول المال السياسي الذي كبلها، وأدخل إليها الذين ركبوا الموجة للوصول إلى مصالح شخصية؛ طريقته بسيطة وسهلة، لا تكلفه سوى التواصل مع الناس وحثهم على دفع مبلغ محدد كل أسبوع، وعن طريق التواصل مع عشرات الأشخاص كان المبلغ الذي يحصل عليه كبيراً، وهو ما يدخل سعادة لا توصف إلى قلبه.

قمت لتجهيز العشاء، انتظرت نصف ساعة، ساعة، لكنه لم يعد. شرعت بغسل الصحون، وأنا ألقي اللوم على صديقي الذي تعوّد على إهمال واجباته، لدرجة أنه لم يكن ينفّذ أي اتفاق قمنا بوضعه ضمن قوانين مشروعنا الجديد. مضت ساعة أخرى ولم يرجع، عرفت بعدها أن صديقي قد اعتقل، اتصل بي القائد عبر سكايب، كان صوته محموماً، وقال بصيغة حازمة "صديقك قد وقع في كمين لإحدى دوريات الأمن. احمل الجهاز واللابتوب وغادر إلى مكان آمن". كنت خائفاً حقاً، نزلت، وفي اعتقادي أن دورية للأمن تنتظرني عند مدخل البناء، ولحسن حظي لم يحدث ما توقعته.

نهاية 2012 بدأت حملة عسكرية على داريا، اندلع القتال في الشوارع وفي الأزقة، سيطر النظام على جزء كبير من المدينة، لكن ما تبقى في قبضة الثوار ظل عصياً على النظام لأكثر من 4 سنوات ونصف، قضيناها في حصار خانق؛ كانت تصلني أخبار صديقي في بداية الحملة: "صاحبك يسلم عليك، ويقول لك أنا بخير فلا تقلق" يقول معتقل سابق مع صديقي. "استجوبوه لأسابيع، في إحدى المرات علقوه من يديه، بينما قدماه مرتفعتان عن الأرض لمدة يوم ونصف، لكنه لم يعترف بشيء" ثم غابت أخباره..

لسنوات طويلة لم يغب عن بالي، كنت أنتظر خروجه من المعتقل، أفتش عن اسمه في كل قائمة تصدر لأسماء معتقلين أفرج عنهم في إحدى الصفقات. اليوم، وبعد ترحيلنا إلى الشمال السوري، فتحت هاتفي المحمول لأصاب بأكبر صدمة في حياتي "نزف إليكم وفاة الشاب… شهيداً تحت التعذيب في معتقلات النظام".