ورد في الصفحات الأولى لهذه الرواية: «لأسبابٍ أمنيةٍ سيتمّ نشر هذا العمل الآن دون ذكر اسم الكاتب، وستتوفر له نسخة إلكترونية فقط، إلى أن يشاء الله ويصبح بالإمكان نشره في دور نشر حرّة في سوريا».
تترافد في هذه الرواية ثلاثة خطوطٍ تحتلّ نفس بطلها عمر، الطالب في السنة الرابعة في كلية الطبّ؛ وهي الثورة والإيمان والحب. وينفتح السرد على المحاولات الوجلة الأولى للشابّ الدمشقيّ للاطلاع على صفحة «الثورة السورية ضد بشار الأسد» على موقع الفايسبوك، عبر كاسر بروكسي، وبإجراءاتٍ شديدة الحيطة.
لم تكن الثورة قد انطلقت بعد، ولكن المترقّبين السوريين لها، بتأثير الربيع العربيّ، كانوا قد أنشأوا الصفحة ودعوا إلى أكثر من يوم غضبٍ في شباط 2011، ثم في آذار حين انطلقت أوّل مظاهرةٍ في البلاد منذ زمنٍ طويل. كان عمر وزميله المقرّب مضر ينتظران بقلقٍ ما سيحدث، ويتفاءلان بأيّ إرهاصةٍ، كالتجمع الاحتجاجيّ العفويّ للناس في سوق الحريقة، ويتنغّمان بالهتاف الذي أطلق فيه دون تخطيطٍ من أحدٍ كذلك: «الشعب السوريّ ما بينذلّ». وكما هي حال الشابين كانت حال شقيقة عمر وصديقتها علا إذ تتبادلان الحديث عن خفّة الظلّ التي وسمت لافتات ميدان التحرير المصريّ.
دقّت ساعة الثورة في البلاد، وصارت تتسع أسبوعاً إثر أسبوع، غير أن مشاركة عمر ومن حوله فيها لم تحِن بعد. فقد كبّلهم الخوف زمناً، وحاروا بين ما يشعرون به من واجبٍ تجاه بلدهم ومبادئهم وبين تحميل أهاليهم ما لا طاقة لهم به باحتمال الاعتقال. حتى تخطّى عمر حاجز الرعب وشارك في «مظاهرةٍ طيارةٍ» خرجت إثر صلاة العشاء من أحد الجوامع. وربما كان تصوير الكاتب للمشاعر الحادّة والمتضاربة في نفس بطله خلال هذه التجربة أجمل صفحات الرواية على الإطلاق. فأثناء الركعات الأربع لم يستطع عمر أن يعي حتى الآيات القصيرة التي تليت، وهو يتخيّل غلظة الهراوات ووجوه رجال الأمن وباص الاعتقال. يسجد الإمام فيتمنى عمر أن يطيل في سجوده، ويقوم فيتمنى لو يطيل قيامه. ولكن السجدة الأخيرة تأتي، ويقوم منها وهو يريدها أن لا تنتهي، ملاحظاً سبّابته ترتجف أثناء التشهّد. يخرج من الجامع متأهباً ولكن لا شيء يحدث، فيسأل من دعاه: هل ألغيت؟ فيجيب: لا أعرف، ربما العدد غير كافٍ. تجتاح الراحة الدافئة صدر عمر؛ ها هو قد أسقط عن نفسه ما توجّهه له من تهمةٍ بالجبن، وأخذ ثواب النيّة!
ولكن الصرخة ما لبثت أن اندلعت تلفح وجوه الواقفين «تكبير!!». ودون تفكيرٍ تحوّلت البسمة الفاترة على وجه عمر إلى تجهّمٍ أطلق ما في ثنايا نفسه من رجولةٍ امتزجت بطعم القهر الطويل فردّ صارخاً «الله أكبر..!!». انفجرت كرةٌ حمراء لاهبةٌ كانت في داخله، محوّلةً ما ران عليها من طبقاتٍ رماديةٍ من الكبت إلى شظايا تطايرت خارج كيانه، واندرجت نفسه مع نفوس المتظاهرين حوله، يمدّهم بوهج الطاقة تلك ويمدّونه، حتى صاح أوّلاً وصاحوا وراءه «الشعب يريد إسقاط النظام».
تتالت المظاهرات بعد ذلك وأضحت حدثاً مألوفاً في يومياته. واتسعت علاقاته مع الثوّار حتى أصبح أصدقاؤه بين مطارَدٍ هرب إلى الخارج وبين معتقلٍ أو شهيد. واضطرّ عمر إلى التواري مدّة في بيت جدّه بعد أن تعرّف إليه أحد المخبرين المتابعين للمظاهرات. وفي هذه المرحلة وجد الوقت والمكتبة الغنيّة الوافية للقراءة في موضوعات الإيمان والإلحاد التي ألحّت عليه بحكم العمر وتلمّس الطريق من جهةٍ، وبفعل الاحتكاك بأشخاصٍ مختلفين عنه في جوّ الثورة، لم يكن له أن يلتقي بهم في سياق حياته المألوفة في منزل ذويه المحافظ وفي الجامع الذي كان يتردّد إليه، من جهةٍ أخرى.
يغرق عمر في الكتب المتناقضة في مسائل الإيمان والإلحاد والشكّ، ويخرج منها أكثر إيماناً وهو يردّد آخر عبارةٍ خطّها جدّه في دفتره الخاصّ مخاطباً ربه: «وحدك تعلم». ولكن علاقته القصيرة والكثيفة مع علا تصيبه بجرحٍ صعب الاندمال، فقد رفضته هذه الثائرة الجميلة التي عشقها باندفاع الحبّ الأوّل وجنونه، بالضبط لأنهما مختلفان في موضوع الإيمان والالتزام الدينيّ.