هكذا نزحوا.. وهكذا عادوا ليحملوا ما تبقى من بيوتٍ فارغة

نزوح المدنين في ديرالزور | خاص عين المدينة | عدسة كرم

بعد أقل من شهرٍ على خروجنا من منزلنا أصبح الطقس بارداً للغاية.. لم نحسب له حساباً فقد هربنا بما يغطي أجسادنا فقط. واقترب العيد مع أول بشائر الشتاء، ولم يكن لدينا ما يكفي لسد الرمق. عمّت شائعات بأن هدنة ما في الأفق بين الجيش الحر والجيش النظامي في أيام العيد الأولى، يُسمح فيها للنازحين بالدخول إلى منازلهم وأخذ حاجياتهم ثم الخروج بسلام.

 

طريق العودة

لم يكن الطريق من الرقة إلى دير الزور غير الطريق التي سلكناها في الهروب، لكنها اكتظت بالحجيج العائد بقوافل السيارات.
وصلنا في صباح العيد وكان الجو ماطراً. استرحنا في منزل أخي ثم تركت أولادي هناك وانطلقت مع بعض إخوتي إلى الحاجز الذي استقر في رأس حيّنا (الكوخ). حشرت نفسي بين الجموع المتجمهرة هناك. وبين الفينة والفينة كان يعلو زئير الضابط موجهاً بارودته إلى الجموع تارةً وإلى الأعلى أخرى، مطلقاً بعض الرصاصات التي تثير الخوف وتفرّق الجموع من أمامه.
عاد قسمٌ كبيرٌ من الناس دون جدوى، ومنّى قسمٌ آخر نفسه بالدخول بعد أن تخفّ الأزمة. ومضت الدقائق والساعات. وبقيتُ واقفةً متألمةً أتابع ما يجري، فقد كانت هناك شروط وضعها الضابط للدخول، وكنت أراجع قدرتي على إمكانية تنفيذها.

 

شروط الزيارة

أصرّت إحدى النساء مستجدية العساكر للعبور إلى منزلها وأخذ بعض الحاجيات لأطفالها، فاشترط عليها الضابط أن تجرّ أولاً بعض جثث قتلاهم في اشتباكات الليلة الماضية في الداخل. وبعد سجالٍ طويلٍ قبلتْ فأشار الضابط إلى رجلين من الواقفين في الحشد أن يرافقاها... وهذا ما حدث إذ تبعها الرجلان وغابوا فترةً ليست بالطويلة. ثم لاحت بعباءتها السوداء من بعيد، تجرّ جثةً من القدمين، لاهثة، تقف حيناً ثم تنحني أخرى، وتعاود الجرّ. وما أن وصلت حتى أقبل الرجلان يسحل كلٌ منهما جثةً أخرى. وانتصبتْ بجسدها بعد أن وضعت الجثة عند قدمي الضابط وأومأت إليه أنها أنهت مهمتها وستدخل إلى منزلها، فصاح بصوته الأجش: (استني..... لسى بدك تجيبي اتنين)، فردّت عليه: (والله تعبت يا سيدي)، أجابها: (ما فيكي تفوتي إلا ما تجيبي اتنين كمان)... كان الرجلان قد وصلا يلهثان أيضاً فأشار إليهما: (الحقوا أنتو كمان). عادت أدراجها ثم جرّت جثة قتيلٍ ضخمٍ مهشّم الرأس بيدٍ واحدة. وضعته عند قدمي الضابط ووقعت أرضاً من شدة الإرهاق والتعب ثم راحت تتقيأ وتبكي... صرختْ في وجه الضابط: (ما ظل جثث يا سيدي، والله ما ظل جثث. خليني أفوت على بيتي، الله يخليك. ولادي ما عدهم هدوم. خليني أجيب المونة، الله يخليك). زعق الضابط قائلاً: (طيب اسكتي وليه يلعن .... روحي فوتي وما تطوّلي. نص ساعة بس).. لملمتْ عباءتها وراحتْ تجري... أما أنا فقد بكيت كثيراً وأنا أغالب الصوت كيلا ينتبه الضابط إليّ. وانتظرت فربما أحظى بفرصتي في الدخول مع إعفائي من مهمة لا أقوى على القيام بها.
فجأة أقبلت المرأة فشدّني الفضول لرؤية ما أحضرتْ، لكنني لم أرَ إلا كيساً صغيراً معلقاً على زندها. اقتربت أكثر فسمعتها تدمدم بكلمات لم أفهم منها إلا أنها لم تجد في بيتها إلا عصارة البصل... كانت تقول: (سرقوا كل شي. بيتي مقشّط. ما بي شي إلا الحيطان. وين غراضي؟ وين المونة؟ ما بي شي). ناولها الجندي هويتها وهي تندب حظها... استدرتُ إلى الجهة المعاكسة، عدتُ أدراجي لأغادر إلى بيت نزوحي ألوك قهري وبرد أطفالي. قررتُ أن أشتري لهم بعض الأسمال من إحدى البالات المتوزعة على أرصفة الشوارع، ريثما نجد من يقاسمنا ثوبه أو من يمنّ علينا ببعض ما لديه ولا حاجة له به.