بينما كان أعضاء لجنة التحقيق الدولية ينامون في غرفهم الفخمة بفندق الفورسيزنز بوسط دمشق، كانت قوات الأسد تطلق عشرات الصواريخ والقذائف المحمّلة بغاز السارين على بلداتٍ في الغوطة الشرقية والغربية.
كانت صدمةً كبيرة، تلك الصور والمقاطع التي بدأت تجتاح مواقع الإنترنت ابتداءً من صباح الأربعاء، 21 آب الفائت، والتي تظهر المئات من الأطفال والنساء والشيوخ وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة اختناقاً بتأثير الغاز القاتل. لقد أطلق بشار الأسد لغرائزه الإجرامية الموروثة العنان، محرزاً ريادة كونه أول من استخدم سلاح إبادةٍ شاملةٍ في القرن الحادي والعشرين، حين أمر ضباطه على الجبال الشمالية لمدينة دمشق أن يطلقوا قذائف السارين المجهزة مسبقاً باتجاه زملكا وعين ترما في الغوطة الشرقية للعاصمة، والمعضّمية في غوطتها الغربية. وهناك، في هذه البلدات، وقعت أحداثٌ كثيرةٌ وسُجِّلت قصصٌ مفجعة، بعدد من ماتوا. وهم، بحسب مراكز الإحصاء والتوثيق المختصة، يتجاوزون ألفاً وأربعمائة شهيد، وأضعاف هذا الرقم من المصابين.
ماتوا دون أن يشعروا بشيء
كان مراد، وهو ناشطٌ من تنسيقية المعضّمية، يسهر كعادته كل يومٍ ليرصد تحركات العدو القريب على بعد كيلومترات قليلة، حين سمع صوت صفارة الإنذار من هناك. أحس بشيءٍ مريبٍ. وبعد دقائق، وفي تمام الرابعة والنصف، سقط الصاروخ الأول. كان صوت ارتطامه مختلفاً عن كل ما سمعه سابقاً، فهو يشبه صوت تكسر الزجاج. ليسمع بعد ذلك الصوت نفسه سبع مرات أخرى، وهي الصواريخ أو القذائف الكيماوية التي سقطت في كلٍ من حي الروضة وحي الزيتونة في المعضّمية. وخلال نصف ساعة كان مراد يقف ذاهلاً أمام ثلاثة جثثٍ لم تكن عليها آثار جراح، ليدرك أنه أمام هجومٍ بالسلاح الكيماوي، ويبدأ، مع غيره من أهالي المنطقة، عملية إسعافٍ استمرت لساعات عدة. وبحسب قوله في وصف الضحايا: كان البعض "يزبد" وهو شبه غائب عن الوعي، وآخرون تتضاءل حدقات عيونهم لتغدو بيضاء.
يتحدث مراد عن مشهدٍ آخر: ذهبت إلى بيت خالي لأتفقدهم، لأن منزلهم يقع على بعد أمتارٍ من موقع سقوط الصاروخ الأول. دخلت البيت. كان خالي يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكانت ابنته وزوجها وأطفالها نياماً، ولم يكونوا كذلك بل موتى، فقد اختنقوا دون أن يشعروا بشيء.
في المشفى الميداني:
لا يتذكر الجميع أن مدينة المعضّمية محاصرةٌ منذ تسعة أشهر. وأن طعام معظم السكان فيها خلال الشهر الأخير يقتصر على التمر والتين المخزّنين من قبل. ولا يعرف الجميع أيضاً أن المشفى الميداني في المعضّمية، والتي استقبلت آلاف الإصابات في ذلك الصباح، لم تكن تملك إلا 400 حقنةٍ من المصل الخاص بالعلاج من الإصابات الكيماوية (الأتروبين)، مما يعني أن كادرها الطبي وقف عاجزاً عن فعل أي شيء أمام فداحة الوضع وهول الكارثة. ورغم ذلك بذل الكادر الطبي والمسعفون المتطوعون جهوداً جبارة في ذلك اليوم أمام هذا الوضع الرهيب الذي ترتبك كبرى المشافي الحديثة في التعامل معه. فخمسة آلاف مصابٍ في وقتٍ واحدٍ رقمٌ كبيرٌ جداً، وخاصة مع الإمكانات المحدودة في كل شيء. فعلى سبيل المثال، لم يكن خزان الوقود الخاص بمولدة الكهرباء يحوي سوى 18 ليتراً من المازوت، مما يعني توقف جميع أجهزة التنفس والإنعاش، وكذلك توقف مضخة المياه. وغير ذلك من التفاصيل الصغيرة، التي أضافت عبئاً اضافياً على كاهل الأطباء والممرضين، ورفعت أيضاً عدد الشهداء الذين كان من الممكن أن ينجوا من حفلة الموت الرهيبة تلك.
حين وصل إلى المشفى، كانت أمام مراد مهمة ثقيلة، عندما طلب منه أحد الأطباء أن يفرز الموتى عن الذين ما زالوا على قيد الحياة، فقام مع بعض الشبان بنقل الذين تأكدت وفاتهم إلى حيز محدد، ومن ثم دفنهم في مقابر جماعية.
يقــــول مراد: أعرف 76 شــــهيداً فــــرداً فـــرداً. أعرف أيــن ماتــوا وأيــن دفنوا.