تجارب في الإدارة العامة
(مادةٌ مأخوذةٌ من دراسةٍ عن النفط في المحافظة، منذ خروجه ومنشآته عن سيطرة النظام وحتى الآن. أعدّها فريقٌ من الباحثين. وتصدر قريباً عن "عين المدينة")
نرصد هنا ثلاث محاولاتٍ قامت بها قوىً وهيئاتٌ ثوريةٌ في أعمال النفط، دون أن تأخذ صبغةً عشائريةً أو دينية.
حقل التيّم
فور خروجه عن سيطرة النظام، نهاية العام 2012، تعرّض حقل التيّم لعمليات نهبٍ واسعةٍ خلال كانون الثاني وشباط 2013، قبل أن تتأسّس لجنةٌ خاصّةٌ لإدارته، كانت ثمرة جهود أطرافٍ عدّةٍ أبرزها المجلس العسكريّ والمجلس المدنيّ لمدينة موحسن وبلداتها وبعض قادة كتائب الجيش الحرّ ونشطاء ثوريين واجتماعيين من أبناء موحسن والبلدات التابعة لها في كلٍّ من المريعية؛ البوعمر؛ طابية شامية؛ البوليل؛ الطوب. وهي المنطقة الأقرب جغرافياً إلى موقع الحقل.
يقع على مسافة 15 كم جنوب شرق مدينة دير الزور.
تألفت اللجنة من 12 عضواً، مُثلت فيها كلّ بلدةٍ بعضوين. منذ انطلاقتها وحتى اليوم الأخير في عملها (من 18 آذار حتى 7 أيار 2013) كانت للجنة التيّم الأولى وظيفةٌ رئيسيةٌ هي بيع النفط الخام من مستودعات التجميع في موقع الحقل، والمخزّن في أوقات إنتاجٍ سابقةٍ –تحت سيطرة النظام- ثم تسليم الواردات المالية إلى المجلس المدنيّ الذي يقوم بتوزيعها على لجنتي الذخيرة والإطعام. وخلال 50 يوماً تقريباً من عمل اللجنة بلغت الواردات الكليّة 94 مليون ل.س (1 مليون دولار تقريباً، وقتها)، أنفق معظمها في شراء الذخيرة (72 مليوناً)، وتوزّع الباقي على نفقات الإطعام ورواتب الحرّاس/ الكتائب، وإعانات ذوي الشهداء، وبعض النفقات الأخرى المتقطّعة في قطاعي الخدمات والصحة.
وقعت اللجنة منذ بداية عملها في سلسلة أخطاءٍ تراكميةٍ، أتاحت المجال لحدوث عمليات سرقةٍ مباشرةٍ، أو تلاعبٍ بالكميات المعبّأة، مما سبّب ضياعاتٍ ماليةً قدّرها أحد أعضاء اللجنة بأكثر من 35% من الواردات المفترضة. إضافةً إلى اقتصار مهمتها على بيع النفط، دون أيّ اهتمامٍ بالجوانب الفنية المتعلقة بتجهيزات الحقل ومعدّاته، أو بإعادة تشغيل الآبار الإنتاجية وصيانتها.
رغم كلّ الأخطاء والملاحظات الجادّة التي اعترت عمل هذه اللجنة، إلا أنها، وبالنظر إلى الفوضى العارمة التي ضربت نفط دير الزور، كانت تجربةً رائدة، للأسباب التالية:
- لم يخضع حقل التيّم لسيطرة مجموعةٍ عائليةٍ أو عشائرية، إنما لمؤسّسةٍ راعت في تشكيلتها التعدد العشائريّ والمناطقيّ، وكانت مسؤولةً أمام الرأي الشعبيّ الثوريّ العامّ، الذي أصرّ على حلها كما سنرى بعد قليل.
- إنفاق جزءٍ لا بأس به من واردات الحقل في المنفعة العامة، رغم بعض مظاهر الفساد الإداريّ والماليّ.
- قدرة أعضاء اللجنة على تسوية الخلافات الناشبة مع الأطراف العسكرية المختلفة حول نصيبها من الذخيرة أو الرواتب.
وسط حالة استياءٍ متصاعدةٍ في الرأي العام لسكان المنطقة المعنية بالحقل بسبب طريقة عمل لجنة التيّم والأخطاء المتكرّرة التي وقعت فيها، وتحت ضغطٍ من مجموعاتٍ ثوريةٍ شبابيةٍ؛ توصّل المجلسان العسكريّ والمدنيّ إلى قرارٍ بحلّ اللجنة وتشكيل أخرى جديدة، روعي في انتقاء أعضائها أن يكونوا من الثوّار والمتعلمين تعليماً جامعياً –إن أمكن- أو الحائزين على شهادة الثانوية العامة على الأقلّ، وأن يكونوا من ذوي السمعة الحسنة. تمّ الأخذ بالشروط السابقة إلى حدٍّ كبيرٍ عند انتقاء أعضاء اللجنة الجديدة، التي تألفت أيضاً من 12 عضواً بنفس طريقة التمثيل السابقة. اقتصر عمل اللجنة في الأسابيع الأولى على بيع النفط المتبقي في الخزّانات. قبل أن يؤسِّس أكثر من 100 ناشطٍ «هيئة حماية الثورة في مدينة موحسن»، التي سيكون لها دورٌ رئيسيٌّ في سلسلةٍ من التغييرات والأعمال الهامة في جوانب مختلفة كان أبرزها إدارة حقل التيّم.
نجحت الهيئة في استثمار سلطتها المعنوية، الناجمة عن قوّتها وارتفاع عدد المنتسبين إليها، في التعامل مع القادة العسكريين والمدنيين المتنفذين في الشأن العام. وكان أوّل الأعمال التي قامت بها حلّ المجلس المدنيّ وتأسيس مجلسٍ بديلٍ سمّي «مجلس الثورة في مدينة موحسن»، تألف من ستة عسكريين ومثلهم من المدنيين، يختار كلّ واحدٍ منهم أبناءُ بلدته بالانتخاب. كان لمجلس الثورة ما يشبه السلطة التنفيذية، في حين اتخذت الهيئة دوراً رقابياً إشرافياً. عملت الهيئة ومجلس الثورة على تطوير العمل في حقل التيّم، فأنشئ، إلى جانب لجنة بيع النفط، قسمٌ للإنتاج، وإدارةٌ مالية، وقسمٌ الحراسات.
لم تجرِ أية انتخاباتٍ بالطرق المعروفة، لأسبابٍ مختلفة، لكن تعيين أعضاء المجلس أو انتقاءهم تمّ بتوافق الفعاليات المدنية والعسكرية في كلّ بلدةٍ، وبمشاركةٍ مباشرةٍ من هيئة حماية الثورة.
أهم النجاحات الفنية لقسم الإنتاج والصيانة:
لم ينقص عدد المهندسين العاملين في هذا القسم عن 3 مهندسين من مهندسي شركات النفط السابقة، خلال العشرة أشهر الأخيرة تقريباً من عمل اللجنة، إضافةً إلى أكثر من 7 فنيين مهرةٍ، و10 عمالٍ عاديين. عمل هؤلاء إلى جانب متعهد إنتاجٍ كان يأخذ مبلغاً شهرياً مقطوعاً من الإدارة مقابل تشغيله للحقل بواسطة قسم الإنتاج.
نجاحاتٌ فنية:
- بعد بيع كميات النفط المتبقية في الخزّانات، في نهاية آب 2013، تم تشغيل 3 آبارٍ ذاتية الضخّ وبئرين آليي السحب، بطريقة (رأس الحصان)، وبمعدّل إنتاجٍ وسطيٍّ 700-1100 برميلٍ في كلّ يوم عمل.
- بالاستفادة من التجهيزات والعدد الفنية المتوافرة في موقع الحقل، نجح مهندسو التيّم في تصنيع مصفاة نفطٍ باستطاعةٍ متوسطةٍ بتكلفةٍ زهيدةٍ جداً بالمقارنة مع تكاليف المصفاة الشبيهة. مما وسّع هامش الأرباح ووفر مشتقات النفط لسكان المنطقة بنوعيةٍ جيدةٍ وسعرٍ معقول.
- تحسين جودة النفط الناتج، بالاعتماد على طرائق علميةٍ ووفق الإمكانات المتاحة.
نجاحاتٌ إدارية:
- تأسيس بيئة عملٍ إداريةٍ يعرف فيها العاملون واجباتهم واختصاصاتهم في تسلسلٍ وظيفيٍّ واضح.
- تقديم مستوى أداءٍ ماليٍّ مرتفعٍ ومتّسمٍ بالشفافية والدقة والحرص على المال العام.
أسهم الجوّ المؤسّسيّ الذي أحاطت بها اللجنة المتعاملين معها، من تجّارٍ وسائقين، في منح هؤلاء الإحساس بالثقة والأمان، مما شكّل عامل جذبٍ تسويقيٍّ يعوّض عن الانخفاض النسبيّ لجودة نفط التيّم، وهو البئر العجوز، بالمقارنة مع نفط الآبار الأخرى.
الواردات:
بلغت الواردات الكلية، الناتجة عن بيع النفط المستخرج من الآبار أو مشتقاته من المصفاة، ابتداءً من 21/8/2013، وحتى سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على الحقل في نهاية حزيران 2014، 384 مليون ل.س. خُصّصت منها ما نسبته 65% لتمويل الأعمال القتالية، قابلةٌ للزيادة عند الضرورة، و10% لنفقات الجرحى وذوي الشهداء، و15% لخدماتٍ وأنشطةٍ إغاثيةٍ وإنسانية، و5% للنفقات الإدارية والتشغيلية، و5% كمدّخرات طوارئ في صندوق الإدارة المالية.
مصفاة مجلس المحافظة
بتكلفةٍ إجماليةٍ فاقت 220 ألف دولار، قام مجلس محافظة دير الزور، في شهر تشرين الأول 2013، بشراء مصفاةٍ للنفط. رُكّبت المصفاة في موقع حقل الورد (110 كم شرق دير الزور). واتفق المجلس مع لواء جعفر الطيار على أن يقوم اللواء بحمايتها مقابل 20% من الأرباح. وشكّل المجلس لجنةً خاصّةً للمصفاة تألفت من رئيسٍ ومديرٍ فنيٍّ ومديرٍ إداريٍّ ومديرٍ ماليٍّ ومدير مبيعات. وتفاوتت واردات اللجنة بين شهرٍ وآخر، ولا سيما بعد نفاد النفط المتبقّي في خزانات الحقل، واضطرار اللجنة إلى شراء النفط الخام من الآبار.
# - تأسّس في كانون الثاني 2013، كمظلةٍ عليا لجميع المجالس المحلية الفرعية في المحافظة.
# - باستطاعة تكريرٍ اسميةٍ 200 برميلٍ في اليوم.
# - طرد لواء جعفر الطيار قوّات الأسد من الحقل في تشرين الثاني 2012.
# - بلغت الواردات الكلية، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عمل المصفاة، 15 مليون ل.س. لتتراجع، إلى حدٍّ كبيرٍ، بعد ذلك.
إلى جانب الهدف الرئيسيّ المتمثل في تعزيز دور المجلس ومنحه الشرعية والحضور أمام السكان، كان لمجلس المحافظة الأهداف التالية من هذه الخطوة:
- إيجاد موارد ذاتية.
- الحدّ من ظاهرة التلوّث الناجمة عن عمل الحرّاقات البدائية.
- تخفيض أسعار المشتقات النفطية في السوق.
شكلت تجربة المصفاة مبادرةً ناجحةً من مجلس المحافظة، منحته الثقة بالنفس للقيام بمشاريع جادّةٍ، تعزّز من مشاركته في شؤون المجتمع المحليّ. وأثبتت التجربة إمكانيةً أكيدةً بأن تنهض المجالس المحلية بأدوارٍ أكبر من تلك التي لعبتها في القضايا الرئيسية مثل قضية النفط. أما نقاط الضعف فكانت فشل المجلس في الحدّ من التلوّث بسبب الانتشار الكبير لمئات الحرّاقات البدائية الصغيرة، وفشله في تخفيض أسعار المشتقات النفطية بسبب ضعف القدرة التنافسية لمصفاته أمام المصافي الأخرى، وخاصّةً تلك المملوكة للتشكيلات العسكرية التي يستولي معظمها على آبارٍ أيضاً. إذ امتلكت جبهة النصرة مصفاتين، وحركة أحرار الشام ثلاث مصافٍ. وامتلكت كلٌّ من ألوية الحمزة، وابن القيم، والقعقاع، والله أكبر، مصفاة نفطٍ لكلٍّ منها. إضافةً إلى المصافي الخاصّة لبعض المجموعات العشائرية بجانب بعض الآبار التي تسيطر عليها.
عجز مجلس المحافظة عن إقناع أيٍّ من المستولين على الآبار بتخصيص جزءٍ من إنتاجها لمصفاته، ليتمكن من توزيع منتجاتها على مئات المدارس أوّل موسم البرد، أو على محطات تصفية المياه في المحافظة. بل عجز عن الحصول على النفط بسعرٍ مخفضٍ من شخصٍ يستولي بمفرده على بئرٍ لا يبعد عن المصفاة أكثر من 200 متر.
احترقت المصفاة بخطأٍ فنيٍّ بعد استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية عليها، صيف عام 2014، بوقتٍ قصيرٍ، ضمن ما استولى عليه من المصافي الأخرى التي دُمّر معظمها بفعل الهجمات الجوّية لطائرات التحالف.
آبار المجلس القرويّ في الجِرذي
نجح المجلس القرويّ لبلدة الجرذي -80 كم شرق دير الزور- في السيطرة على ثلاثة آبارٍ متجاورةٍ، بعد طرد المجموعات المستولية عليها، بمساعدة كتائب من الجيش الحرّ ووجهاء من البلدة. كان ذلك في نهاية عام 2013. لكن المشكلات التي أثارها ملاك الأرض التي تقع فيها هذه الآبار لم تسوَّ بشكلٍ كاملٍ إلا بعد شهرين من التنازع مع المجلس، انتهت بحصولهم على حصّةٍ من الواردات، ودون أن يتوقفوا عن إثارة المتاعب للمجلس بين حينٍ وآخر. وكذلك كانت حال بعض كتائب الجيش الحرّ التي شكّلت، بتنسيقٍ مع المجلس القرويّ، مجلساً عسكرياً خاصّاً بمسلحي الجرذي يتلقى حصّة الكتائب ويوزّعها بينها.
#- تأسّس المجلس القرويّ في كانون الثاني 2013. ويطابق في عمله عمل المجالس المحلية، وإن اتخذ اسماً مختلفاً.
#- تراوح إنتاج هذه الآبار بين 1000 إلى 2000 برميلٍ في يوم العمل.
البنية الإدارية ونظام التوزيع
رغم المدّة القصيرة لسيطرة المجلس الفعلية على الآبار -4 أشهرٍ فقط – بدت النتائج مشجعةً إلى حدٍّ كبير. إذ أكمل المجلس تأسيس ما يلزم من المكاتب واللجان بما يلائم نظام تقسيم الواردات المعتمد؛ فشكّلت لجنةٌ خاصّةٌ تتولى توزيع نسبة 30% المحدّدة لمساعدة ثوّار المدن والبلدات السورية خارج المحافظة، ولجنةٌ فنيةٌ يرئسها مهندسٌ لتشغيل وصيانة الآبار، إضافةً إلى المجلس العسكريّ الذي يوزّع نسبة 30% المخصّصة لكتائب الجرذي. فيما نالت مكاتب الخدمات والصحة والتعليم والزراعة، المتفرّعة عن المجلس القرويّ، نسبة 10% الخاصّة بالإنفاق العام داخل البلدة. أما السكان، الذين يبلغ تعدادهم 18 ألف نسمة، فحصلوا على نسبة 25% من الواردات. ونال ملاك الأرض التي تقع الآبار ضمنها نسبة 5%.
مشاريع نفذها المجلس
كانت هذه التجربة من التجارب المعدودة التي سُخّرت فيها الواردات للنفع العام؛ فقد نفذ المجلس جملة مشاريع ملموسةٍ كان أهمّها تركيب مضخّاتٍ كهربائيةٍ لريّ الأراضي الزراعية، وصيانة الفرن الآليّ وتشغيله وتأمين الخبز بسعرٍ مدعومٍ، وتشغيل المدارس ودفع رواتب للمعلمين فيها، وتشغيل المركز الصحيّ ودفع رواتب العاملين فيه، إضافةً إلى إنفاق المجلس على الأعمال البلدية والنظافة العامة ومياه الشرب والكهرباء.