من حلم التمدد إلى توسل البقاء
تنظيم الدولة الإسلامية يعيد ترتيب أولوياته

جاء الانحسار المستمرّ لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وتقلص موارده وعناصره، بخطابٍ يلائم الخسارة والانهيار الذي ينتظره قادته المؤسّسون، الذين لم يبق منهم -بحسب البعض- سوى اثنين (طارق الجربا الجزراوي وإياد الجميلي الأنصاري). يرافقه خطابٌ أقل رسميةً يحاول استثمار المتاح من الوسائل للحفاظ على ما تبقى من مكاسب التنظيم، والتوسل للقبول به كغيره من كياناتٍ موجودةٍ بحكم الأمر الواقع في المنطقة.

لم يعد خافياً تحضير التنظيم عناصره ومناصريه نفسياً لتقبل فكرة سقوط دولته الموجودة حالياً، والتي ارتبطت في وعي الكثير من العناصر الجدد بالجغرافيا التي يشغلها التنظيم، ثم التي ينوي التمدّد إليها. على أن التحضير لم يكن نتيجة طرده من ثلث الأراضي التي سيطر عليها فقط، بل كذلك بسبب وعي مؤسّسيه -الثلاثة والأربعين كما يشاع- منذ البداية أن التمدد مجرّد مغامرةٍ قد تؤول إلى الفشل. ولذلك، فمنذ وصولهم إلى سوريا بدأ شرعيوهم بإقناع العناصر أن «الدولة الإسلامية فكرة» أكثر منها كينونة، خاصةً أن أولئك العناصر لم يكونوا يعرفون شيئاً عن التنظيم العراقيّ وهو في حالة ضعفه وانكماشه قبل التمدد.

وفي إصداره الجديد «خذّلوا عن دولتكم»، الصادر عن المكتب الإعلاميّ في «ولاية الخير»، يذكر التنظيم شروطه لوقف الهجمات على الغرب، الصليبيين بحسب تعبيره: «يخرجوا من أرض المسلمين وعلى رأسها القدس والأندلس، ويتركوا دعم الطواغيت، ويتوقفوا عن تنصير المسلمين، ويخرجوا الأسارى، ويعطوا الجزية». ويخاطب مناصرين افتراضيين في الغرب، فيحاول إقناعهم بجواز قتل المدنيين هناك، لأنهم، كما يقول الإصدار: «عندما تأتي قراراتٌ من حكومتهم على معيشتهم أو وظائفهم تهتز الدنيا ولا تقعد، حتى يتراجعوا عن القرار. وعندما أصدر القرار بقتالنا وقتل الأبرياء من المسلمين والمجاهدين، لم يفعلوا شيئاً». ويختم الإصدار بقوله: «انتظروا فإن القادم أدهى وأمرّ أيها الصليبيون، ستتوالى غاراتنا ما دام طيرانكم يقصف أهلنا. هذه بتلك، والأيام بيننا».

إذاً، رغم كل الشروط الذي يضعها لوقف العمليات ضد المدنيين، لم يعد التنظيم يرغب في خوض معركةٍ مفتوحةٍ مع الغرب وجرّ مليون مقاتلٍ من الصليبيين إلى مرج دابق، كما كان يريد، بل تراجع عن ذلك بإرسال الرسائل المزدوجة إلى المدنيين في الغرب؛ فمن جهةٍ يخوّفهم ويتوعدهم بعملياتٍ مشابهةٍ لعمليات بروكسل وباريس وغيرها، ومن جهةٍ يقايضهم الأمان بالضغط على دولهم، حين يدعوهم إلى التظاهر ضد حكوماتهم لوقف عمليات التحالف ضده.

يأتي هذا بالتزامن مع إعادة ترتيب الأعداء، إذ يقفز العدو المؤجل والبعيد «إسرائيل»، بحسب أدبيات التنظيم، إلى الصدارة، وذلك عن طريق الترويج لإطلاق صواريخ باتجاه «إسرائيل» عبر «ولاية سيناء»، عدا عن استعمال إعلام التنظيم المأساة الفلسطينية مؤخراً في منافسة مشايخ مشهورين وكياناتٍ وفصائل موجودةٍ على الأرض منذ زمن، بالإضافة إلى الحكومات العربية، الأمر الذي مرّ به ذات الإصدار في مقدمته، في حين كان العدو الأقرب هو «المرتدين» والحكومات العربية والإسلامية وقت التمدد. وقد انتشرت آنذاك أنشودة «يا عاصب الراس» التي يردّ أحد أبياتها على من يدعو التنظيم إلى شنّ هجماتٍ ضد إسرائيل، ويقول: «غزة من يمّك قريبة/ وتعدّها لي معيبة»، (بمعنى: لا تعبْ عليّ عدم محاربتي إسرائيل، فأنت أيضاً لا تحاربها، أو حاربها أنت!).

كما تحوّل إعلام التنظيم منذ أشهرٍ إلى عرض الدمار الذي يسبّبه القصف، وصار يركز على الضحايا المدنيين جراء استهداف الطيران المناطق التي يسيطر عليها، وكان ذلك غائباً كلياً عن إعلامه في مرحلة التمدد والتفاؤل بقضم مناطق أخرى، على أن هذا التركيز لم يخرج عن منطق الاستخدام المصلحيّ والتوظيفيّ. وقد جاء «خذّلوا عن دولتكم» لتأكيد ذلك، من خلال عرض شهاداتٍ من القورية في دير الزور، بعد المجزرة التي ارتكبها الطيران الروسيّ هناك بتاريخ 25/6/2016، في سياق التحريض على دول التحالف التي لا تضمّ روسيا أصلاً. ويصبّ ذلك في الحملة التي يشنها التنظيم لتحريض «ذئابٍ منفردة» خارج أراضيه، بعد أن خبا وهج المعارك التي كان يخوضها.

في النهاية، لطالما عزف التنظيم على الوتر الطائفيّ المشدود إلى أقصى حدوده لدى سكان دول المنطقة، وحاول بشتى الطرق تحريكهم ضد حكوماتهم، أو دعوتهم إلى دولته، لكن إعلامييه ومناصريه يتحدثون منذ مدّةٍ عن الندم الذي سيصيب حكام الخليج «لتحالفكم مع أمريكا في العراق، وتمدد الشيعة على حساب أهل السنة»، كما يستبق أحدهم، و«عندما يقرع الشيعة أبواب حدودكم المصطنعة، ستقولون يا ليت لم نحارب الدولة الإسلامية». فهل يحاول التنظيم عبر كل هذا تقديم أورق اعتماده للاعبين محليين وإقليميين ودوليين ليحافظ على كيانٍ يترك الغرب و«إسرائيل» وشأنهم، ويقف في وجه خطر تمدّدٍ إيرانيٍّ مستمرّ!؟