من أغاني الثورة إلى أناشيدها

لعبت الأغاني والأهازيج دوراً كبيراً في حشد واستنهاض همم السوريين للالتحاق بالثورة. وخلال السنوات الخمس المنصرمة طرأ عليها تحولٌ كبيرٌ من التركيز على مفاهيم الحريّة والكرامة حتى وصلت إلى المفخخات.

«يا حيف» التي قدمها سميح شقير كانت أُولى الأغاني التي ألهبت مسامع الثّوار السوريين، وحملت كلماتها كلّ معاني القهر والقمع وخيبة الأمل في الأمن والجيش: «قالوا إخوتنا هنن ومش رح يضربونا». ثم لحقتها عشرات الأغاني التي ركّز معظمها على جرائم الأسدَيْن الأب والابن قبل وفي مطلع الثورة، وحرّض بعضها على التضامن مع المدن والقرى السورية الثائرة، فيما اتّجه قسمٌ آخر نحو تعرية رأس النظام ورجالاته وفضحهم.

إلا أن جانباً أساسياً غاب إلى حدٍّ ما عن هذه الساحة وقتها، وهو «الأغاني الحماسية». ومع عسكرة الثورة وانصباغها بالطابع الإسلاميّ بشكلٍ متزايدٍ بات ما يعرف بـ«الأناشيد الجهادية» دافعاً ومحرّكاً أساسياً لوجدان المقاتل بغضّ النظر عن الفصيل الذي ينتمي إليه. وعن دور النشيد وأثره في أداء ومعنويّات المقاتل يحدّثنا أنس حشيشو (داعيةٌ يرافق المقاتلين على الجبهات) قائلاً: «إنّ وقود المجاهد في معاركه -بعد عقيدته- هي الأناشيد، لأنّها تبثّ فيه معاني البطولة والتضحية، وتحيي فيه قضيّته التي خرج لأجلها، علاوةً على أنها تخاطب مشاعره ووجدانه وتحرّكه».

ولكن الإحجام عن إحياء «التراث الجهاديّ» من نشيد المنطقة أسهم بشكل كبير في طغيان «نمط القاعدة» على حساب «الأناشيد الشامية» التي نشأ عليها معظم أبناء «التيار الملتزم» في سورية وغيرها. فشكّلت هذه الأناشيد القاعدية الرائجة عامل جذبٍ لقسمٍ كبيرٍ من الشباب الناشئ الملتزم حديثاً، وأحد أدوات الدعاية للانضمام إلى تيارات السلفية الجهادية بفروعها.

ثمة شيءٌ ضائعٌ حقاً هنا: كيف لمثل من تربّى على مدرسة أبو دجانة وأبو الجود وأبو مازن ومسلّم البيطار وأمين التّرمذيّ أن يستمع إلى إصدار داعش «قريباً قريباً» الذي ينحدر من مقاماتٍ غربيّة؟!

يقول هيثم الحلبي (منشدٌ وملحّنٌ ومخرجٌ دمشقيّ) في حوارٍ مع «عين المدينة» إنّ الأسباب التي أدّت إلى ترويج نمط القاعدة كثيرة، ويمكن إجمالها في نقطتين:

  1. لم يكن تصدّر هذا النمط نتيجة خلوّ المكتبة الإسلامية أو الثّوريّة من الموروث الإنشاديّ الذي يستوعب الجهاد بمفهومه العامّ الذي يبدأ بجهاد النفس وتهذيبها وقد لا ينتهي بحمل السّلاح؛ بل جاء نتيجة ضعف الترويج له وإحيائه. وفي حقيقة الأمر بات النشيد القاعديّ من «لوازم الجهاد»، وبعبارة أخرى «موضة جهادية»، فبعض الجهات لا تموّل إلاّ مثل هذه الأعمال. لديّ عشرات الأعمال الحماسيّة ذات النمط الشاميّ (سورية وفلسطين) لم يكتب لها النّور بعد لأنها لم ترضِ بعض الدّاعمين، ولا حتى الّشارع الذي لم يستفق بعد من هذه السّكرة!
  2. ارتباط هذا النّمط بحقبة «الجهاد الأفغاني» واحتكار مفهوم الجهاد، وبالتّالي إضفاء الشّرعيّة عليه دون غيره. تُضاف إلى ذلك قوّة الصّورة والمؤثرات التي تركّز عليها مثل هذه الإصدارات عبر مشاهد القتل والتفجير والنّكاية، مشكّلة بذلك صورة ذهنيّة عن النشيد الجهادي مفادها بأنه تبعٌ للأقوى وليس الأوعى!

ويُتابع الحلبي: «إصدارات داعش خاليةٌ من أي قيمةٍ فنيّة. ومن خلال خبرتي في الإنتاج والإخراج أستطيع القول بأن المضمون الفكريّ واللحن لديها يكادان يكونان خاويي الوفاض في الكثير من الأحيان. لذلك تلجأ إلى استخدام المؤثّرات الصّوتية والبصريّة لتغطّي فشلها الذّريع في هذا الجانب، وتُشبعَ دوافعَ المعجبين بها».

ويضيف: «أعجب كلّ العجب ممن يستبدل بهويته وتراثه تراث وثقافة غيره، ففي الوقت الذي بدأت فيه بعض المدارس الموسيقية الغربية بتعلّم أشهر الأغاني والأناشيد الشامية، تجدُ بعض من يغنّي للثورة والجهاد بمقاماتٍ غربيّةٍ لا تُناسب المضمون بل تجرّده من روحه وتسلبه رسالته. علّمْنا الدّنيا النشيد، فلماذا لا نعكف على تطويره وإحيائه؟».