مكتبة المفتي .. مائة عام من الثقافة والعلم والدعوة ..

عدسة علي | خاص عين المدينة | مكتبة المفتي قبل الخراب

ثلاثة صواريخ أطلقتها طائرة أسدية أصابت منزل مفتي الميادين الراحل، ودمّرت واحدة من أهم المكتبات الخاصة في سوريا، فتحولت مائة عام ٍمن عمر المكتبة إلى رماد وخيالات عناوين لأمهات الكتب بقيت في ذاكرة القراء وطلبة العلم.

 

الأربعاء الحزين

كان يوم الأربعاء 28/11/2012 يوماً سيئاً في تاريخ عائلة مفتي الميادين الراحل "محمود مشوّح"، حين عاد المشيعون من دفن زوجته التي توفيت تأثراً بوفاة أحد أبنائها خارج البلاد. وكعادة أهل الميادين لا بد من واجب "التنزيلة"، وهو وجبة الغداء التي يقيمها الجيران لأهل الميت فور عودتهم من المقبرة. وتشاء الأقدار أن يكون هذا الواجب سبباً لمنع مجزرة محقّقة لكامل أفراد العائلة، فقد أطلقت الطائرات الأسدية أربعة صورايخ أصابت ثلاثة منها المنزل وأصاب الرابع المسجد المجاور، لتستشهد داخل البيت زوجة ابن المفتي وإحدى حفيداته، إضافة إلى تدمير أهم المكتبات وأكثرها عراقة في محافظة دير الزور كلها، فاحترق 15 ألف عنوان، بينها الكثير من المخطوطات التراثية النادرة، لينتهي بذلك ما يقارب مائة عام من العطاء الثقافي  كانت تقوم به هذه المكتبة. يقول السيد طريف مشوّح، النجل الأكبر للمفتي: "يعود عمر المكتبة إلى عام 1920. وقد ورثها المفتي عن والده عام 1945،

وتابع رفدها بالكتب الصادرة في جميع العلوم الشرعية والإنسانية. احترقت معظم الكتب وتضرر القليل الباقي منها بشكل كبير". وربما كان رحيل المفتي قبل دمار مكتبته بسنوات من لطف الأقدار به، وهو الذي أحب كل كتاب فيها كواحد من أبنائهِ، وأوصى أن تكون هذه المكتبة وقفاً لطلاب العلم، فلا تباع ولا تقسّم.

 

المفتي

ولد العلامة "محمود بن عمر مشوّح" في مدينة الميادين سنة 1929. وأرسله والده الشيخ إلى دمشق لتحصيل العلوم الشرعية في رحلة علمية لم تدم طويلاً، إذ قطعتها وفاة الوالد، مما اضطر الشاب اليافع أن يعود إلى بلدته ويستلم الإفتاء بدل أبيه. وليستأنف، وبجهود ذاتية، رحلته العلمية التي جعلت منه واحداً من أهم علماء بلاد الشام في القرن العشرين. تميّز باطلاعٍ واسعٍ وفهمٍ عميقٍ لتيارات الفكر والفلسفة والأدب، القديم منها والمعاصر، مما أهّله ليكون عالماً موسوعياً ومجدّداً لم ينل حظه الكافي من العناية والشهرة، بسبب طبيعته الكارهة للظهور واعتكافه شبه الدائم في مدينته التي لم يغادرها إلا نادراً، رغم نشاطه الدعوي الواسع وأثره الكبير على أجيالٍ في الميادين ودير الزور كلها. كان المفتي واحداً من دعاة التحرر الذهني ونبذ التقليد الأعمى، مما ميّزه عن كثيرٍ من رجال العلم والدين. يقول في هذا الباب: "إن الله لم يقبل من أحدٍ تقليد أحد، وإنما طالب الكل بأن يتمتَّعوا بمزايا الإنسان، وخصال الرجال، وأن ينظروا إلى الأمور نظر الحر المتحرر".
انصرف المفتي إلى العمل الدعوي، مما جعله مقلاً جداً في الكتابة والتأليف. ويعلل ذلك بأنه آثر العمل مع الناس وانشغل بهم لما وجد فيهم من ابتعاد عن السلوك الإسلامي. غير أن هذا لم يمنعه من قضاء سنوات في تأليف كتابه الشهير "تفسير مفردات غريب القرآن"، وكتاب "صفة الجنة" الذي ما زال مخطوطاً.
وتبرزُ وصيتهُ قدر تقواه وخشيته من الله وسموّ أخلاقه، حين كتب: "وإن ادّعى عليّ أحدٌ فهو مصدّقٌ دون طلب بيّنة، وإن كان لي حقٌ عند أحدٍ فقد سامحته منذ الآن. فأنا أكره أن أقف موقف خصومة بين يدي الله مع أحدٍ من خلق الله".

 

المفتي والطاغية

عدسة علي | خاص عين المدينة | ما تبقى من المكتبة

عدسة علي | خاص عين المدينة | ما تبقى من المكتبة

"إن التاريخ والواقع لا يؤيدان موقفك. فقد فعل غيرك، فأعدم وقتل وسجن وشرَّد، وبعد ثمانية عشر عاماً عادت هذه البذرة للنماء والارتفاع؛ لأن التربة تلائمها، والجو يساعدها، والأَولى أن تحقن الدماء، ويتعايش الجميع لبناء هذا البلد".
كانت هذه كلمة الحق التي قالها المفتي رحمه الله في وجه الطاغية حافظ الأسد في الثمانينيات، أيام صدام السلطة مع الإخوان المسلمين، فكانت نتيجتها تضييق دائم عليه ومن ثم  منعه من الخطابه حتى وفاته عام 2000.