مقاهي نازحي دير الزور في مدينة الباب

من مدينة الباب - عدسة الكاتب

منذ تحريرها من قبضة داعش في شهر شباط الماضي، صارت مدينة الباب هدفاً لموجات نازحين من مدن وأرياف سورية مختلفة. حمل النازحون إلى المدينة تنوعاً مناطقياً يظهر في الأسماء التي أطلقوها على المقاهي والمطاعم والمتاجر، وغيرها من الأعمال التي أسسوها في الباب.

بمجرد الوصول إلى المدينة، وعلى مدخلها الشمالي، يبرز حضور النازحين بأسماء المدن والقرى التي جاؤوا منها، أو بأسماء متصلة بها، أو أسماء تشبه الماركات كانت معروفة هناك، مقهى حمص، كافتريا اميسا (حمص)، فلافل حلب، مقهى الفرات، مقهى ترقا (العشارة)، مقهى الجسر، مقهى الشرقية، موبايلات تادف، مشاوي أبو فاضل- فرع الباب، وغيرها الكثير مما يشغل أكثر من نصف الواجهات في الشوارع الرئيسية والفرعية ايضاً، في المدينة التي يقدر ناشطوها عدد سكانها اليوم ب(180) ألف نسمة تقريباً، نصفهم أو أكثر اليوم من النازحين.

يرى ياسين العبد الله، وهو ناشط إعلامي من دير الزور، أن التسمية نسبة إلى مدن النازحين قد تعزل الناس بعضهم عن بعض، وتجعلهم «متكتلين ومنغلقين على أنفسهم، لا يعرفون عن المجتمع الآخر إلا القليل» ما قد يسبب، بحسب رأي العبد الله، تناحر ومشاكل خطيرة في المستقبل.

يعد أبو محمد هذه الأسماء دليلاََ على تعلق النازحين وحنينهم إلى ديار قد لا يعودون إليها في وقت قريب. وتحت أسمائها يجتمعون للاستئناس ببعضهم البعض، وللتخفيف من مرارة النزوح. يقول أبو محمد الذي يدير مقهى صغيرة حملت اسم مدينته -طلب ألا نذكر اسمها- إن المقاهي في مدينة الباب هي عتبة يدخلها الوافد الجديد، ومن خلالها يبحث عن منزل يأويه، وعن عمل يعيل به أسرته. ولا يرى أبو محمد في عادة النازحين التردد على أمكنة تخص أبناء بلدهم علامة فرقة، فهنالك عوامل أخرى تجمعهم، أولها المسجد الذي يصلي فيه الجميع، وكذلك الجيرة في الأحياء والحارات، وغير ذلك الكثير.

في مقهى دير الزور يمضي أبو إبراهيم، النازح من البوكمال، معظم نهاره من الصباح حتى المساء، وفي مرات كثيرة يتناول غداءه في المقهى برفقة أصدقائه، يدخن، يشرب الشاي، ويسمع آخر أخبار البلد مع القادمين الجدد من هناك. يقول أبو إبراهيم إنه يجد في المقهى تسلية عن الهموم التي يضيق بها صدره بعد سنوات عصيبة تحت ظل داعش، والقصف الهمجي للنظام الذي أخرجهم في الآخر بملابسهم تقريباً من بيوتهم، ثم خلال رحلة نزوح مرّ بها في مخيمات جنوب الحسكة التي تشبه المعتقلات، ثم في طريق يملؤه اللصوص، والمرتشون الذين سلبوا منه ملايين الليرات لتسهيل عبور عائلته الكبيرة، قبل أن تحط به الرحال هنا، مثل آلاف غيره من أهل البوكمال، ليعتاد مع عشرات منهم ارتياد هذه المقهى كل يوم. لا يجد أبو إبراهيم في التفاف أهل كل بلد على بعضهم عزلة عن الآخرين، إذ يسمع هنا كل يوم حكايا من كل مكان، وتعرف خلال الشهرين اللذين قضاهما في الباب، منذ وصوله إليها، على أشخاص من جميع المحافظات.

حاول أبو إبراهيم أن يخرق اعتياده الجديد، تجنب في أكثر من مرة الذهاب إلى المقهى والبقاء في البيت، غير أنه لم يكن سعيداً بهذه المحاولات، فهناك يقع فريسة للتفكير والتذكر، و«الصفن بهذا المسلسل العجيب اللي شفناه، ولسا ما صحينا منه» كما يقول. يعلق جليسه المرح، الذي لا تنطفئ سيجارة الحمراء بين أصابعه، بأنهم لا يستطيعون «مقابلة النسوان في المنزل طوال الوقت» ولا يوجد مكان آخر يلتقون فيه.

في الواقع افتقدت معظم المقاهي الكثيرة التي افتتحها النازحون من دير الزور في مدينة الباب السمات التقليدية للمقهى، إذ تغيب كراسي الخيزران، والأسقف المرتفعة، والإطلالات المعهودة  من خلال الزجاج على المارة في الشوارع، وتبدو بهذه النواقص، وبالكراسي البلاستيكية الملونة، وشاشات التلفاز على الحائط، أقرب «للكافتريا»، لكن هذا الاختلاف لا يحول دون محاولات يبذلها الزبائن، وخاصة الأكبر سناً، لاستعادة ما ألفوه، بتجاهل الكوكتيل والكولا والعصائر المعلبة، والتركيز على الشاي، وكذلك التركيز على الأغاني العراقية من جيل الياس خضر وحميد منصور وسعد الحلي أحياناً، إلى جانب أم كلثوم في أوقات المساء.