مؤرِّخ الثورة في البوكمال

راغب الحماد

مدرّس الجغرافيا الذي جعلت منه الثورة مؤرخاً. وعمل يوماً بيومٍ وساعةً بساعةٍ، طوال سنتين، في تدوين حوادث الثورة ويومياتها. وما زال يعمل حتى الآن.

تفرّغ راغب الحماد، منذ اندلاع الثورة السورية ووصولها المبكر إلى البوكمال، لعملٍ واحدٍ هو تسجيل جميع التفاصيل والأحداث المرتبطة بالثورة في مدينته، وما رافق ذلك من ممارسات نظام الأسد القمعيّة. ويحلم مدرّس الجغرافيا، الذي تجاوز الستين من العمر، أن يصدر كتاباً يسمّيه "يوميات ثورة البوكمال"، يضع فيه كل ما أنجزه من مدوّناتٍ ووثائق وتفاصيل.
يعلل الحماد اهتمامه الشديد، وعمله الدؤوب، بالقول: قمت بهذا العمل لأنني مهتمٌ أصلاً بالتاريخ، وأدرك أهمية التوثيق وتأريخ ما أعايشه من أحداثٍ أخشى أن تتعرض للضياع أو للتزييف والتحريف والتزوير، وأريد للأجيال القادمة أن تعرف الحقيقة. لم يكن هذا العمل سهلاً أو آمناً،

فقبل تحرير المدينة كنت أنظر إلى دفاتري ومدوّناتي وكأنها قنبلةٌ موقوتةٌ أخبئها في بيتي، قد تنفجر مع أي مداهمةٍ أمنيةٍ ربما تجعلني واحداً من ضحايا النظام، الذين كتبت أسماءهم في هذه الدفاتر.
لم أكن وحدي ـ يضيف المؤرّخ الذي يحتفظ بالكثير من القصص والأرقام والتفاصيل في ذاكرته القوية ـ لقد ساعدني وعمل معي بعض الناشطين، مثل الشهيد عبد الله مديد رحمه الله، والحاج همام الزعزوع، والشاب النشط خليل الجليد. كانوا يرافقونني إلى مواقع القصف والتدمير لأراها بعيني ثم أعود إلى البيت لتسجيل ما حدث، وأنا بكامل الثقة أنني أكتب الحقيقة دون زيادة أو نقصان. لقد حرصت على الصدق والدقة، فلم أبالغ ولم أهوّل ولم أهمل أي حدثٍ ذي دلالة. وما زلت إلى الآن أراجع ما كتبت، وأفحص دفاتري، وأسعى لإغناء مدوّناتي بالمزيد من روايات الأشخاص الذين كانوا شهوداً على الأحداث.
وعلى الورق أفكر كثيراً قبل كتابة أي جملة، وأبذل جهدي لتكون الكلمات مطابقة للحقيقة. وأذكر أنني توقفت لساعةٍ كاملةٍ في صياغة حادثة إصابة شابٍ بطلقة قناصٍ ارتدّت من عمود بناء. ولأخذ العلم فقط، استشهد العشرات بهذه الطلقات المرتدّة التي أطلقها جنود الأسد، التي كانت تصيب حائطاً أو عموداً أو سقفاً ثم ترتدّ إلى الضحية.

 

الكتابة تحت القصف

عمل هذا المؤرخ تحت ظروفٍ قاسيةٍ لقرابة عامٍ ونصف، هي فترة الاحتلال الأسدي للمدينة. فكان يسهر يومياً حتى الفجر بين دفاتره وأوراقه، ويتنقل خلال النهار من مكانٍ إلى آخر لمعاينة آثار التدمير الذي تخلّفه قذائف الأسد وغاراته، ومقابلة الشهود وسماع رواياتهم عن حوادث الخطف والقتل والاعتقال، وغير ذلك من أنواع الجرائم التي ارتكبتها قوات الأسد في المدينة. إضافةً إلى تأريخ أعمال الثوار وأنشطتهم، السلميّة منها والمسلحة.
وفي خلاصاتٍ سريعةٍ، يميّز الأستاذ راغب بين أنواع الجرائم الأسدية ووسائلها، فمع 153 غارةٍ جويةٍ على البوكمال سقط 80 شهيداً وجرح 300 شخص (موثقون بالاسم والتاريخ ودرجة الإصابة)، ودُمِّرت 603 منازل، وأكثر من 1200 محل تجاري، دماراً كلياً أو جزئياً. كذلك استهدفت طائرات الأسد 5 مساجد والكنيسة الوحيدة في المدينة. وبلغ عدد شهداء البوكمال ومحيطها 327 شهيداً، منهم 217 من أبناء المدينة. وبلغ عدد المصابين بإصابات دائمة 182 مصاباً. ويتمنى الأستاذ راغب أن لا تزداد أرقامه أبداً، وأن تتوقف عند هذا الحد.

 

لكل أجلٍ كتاب

ويرى الرجل الذي عايش الثورة وحوادثها في مدينته لحظة بلحظة ويوماً بيوم، أن لكل إنسان عمراً وأياماً كتب الله له أن يحياها. ولا يمكن أن ينقص هذا العمر أو يزيد، فلكل أجلٍ كتاب. ففي مراتٍ كثيرةٍ، ومن تحت أسقف تهدّها براميل الطائرات، لم يصب أحدٌ بأذى. ومات آخرون بأسبابٍ أخرى أهون كثيراً من قصف طائرةٍ أو قذيفة هاون أو طلقة قناص. يتحدث مؤرخ البوكمال بكل تفاؤلٍ عن المستقبل. فالتوثيق ليس صنعةً أو مهنةً، كما يقول، إنما هو رؤيةٌ وتصورٌ لحياةٍ أفضل ستأتي حتماً، وستُرَدُّ المظالم إلى أهلها مهما تأخر النصر.