ليلةٌ لا تنسى على الحدود السورية التركية

نازحون تهريباً إلى تركيا

بعد معاناةٍ كبيرةٍ وسفرٍ لمدّةٍ تتجاوز 10 ساعاتٍ، والمرور بحواجز النظام، وحواجز الجيش الحرّ، وحواجز داعش، تمكنّا أخيراً من الوصول إلى معبر باب السلامة الحدوديّ. كلّ من كان معنا تنفس الصعداء، ولم يعرف أحدٌ أن المعاناة لم تنته، وإنما تغيّر لونها فقط.

هذا ما تحدثت به أم ناصر، وهي تروي لـ"عين المدينة" قصة عبورها من الأراضي السورية إلى الأراضي التركية. واصلت حديثها عن الرعب الذي عاشته على الحدود، والكمّ الكبير من الإذلال الذي شعرت به: لم أكن مجبرةً على عبور الحدود "تهريب"، لأنني وعائلتي نحمل جوازات سفرٍ نظامية، ولذلك فقد توجهنا فور وصولنا إلى البوابة باتجاه الباص الذي سبقنا. كان ذلك في الساعة الرابعة تقريباً، أي أن حوالي ساعةً بقيت على إغلاق البوابة. وقبل أن نصل إلى ختم الجواز وجدنا سائق الباص يعود أدراجه ويقول: "البوابة أغلقت. يمكنكم النوم في المسجد القريب هذه الليلة، وتدخلون في الثامنة صباحاً". بعد سفرٍ طويلٍ كان هذا الكلام صدمةً شديدةً لكلّ من أنهكه التعب منّا. نظرت إلى طفلتَيّ وفكرت بأبيهما الذي ينتظرنا على البوابة. أعجبتني فكرة أحد الرجال حولي عن إمكانية العبور "تهريباً". لم تكن لدي تجربة بالسفر. وحين وصلنا إلى الكاراج مجدّداً تجمّع عددٌ كبيرٌ من الرجال يصيحون "ع التيل...ع التيل". عائلةٌ صغيرةٌ مؤلفةٌ من رجلٍ وزوجته التي تحمل مولوداً لا يتجاوز عمره 4 أشهر، اقتربوا مني وسألوني إن كنت أريد العبور معهم لنستأجر سيارةً توصلنا إلى الحدود. سألنا سائق سيارة الأجرة عن وضع الحدود، وعن إمكانية العبور، فأخبرنا أن الأمر سهلٌ جداً؛ ستأخذنا السيارة إلى الحدود، وهناك نعبر خندقاً صغيراً ونصبح في الأراضي التركية، حيث نأخذ سيارةً ونصل بأمانٍ إلى كراج كلس، وتنتهي المعاناة والقلق التي عشتها طوال السنوات الثلاث الماضية.

أشواكٌ وأتربةٌ ورصاصٌ في الهواء

أخذ السائق منا 1000 ليرةٍ عن الراكب الواحد، وأوصلنا إلى الحدود حيث سيسلمنا لأحد المهرّبين "الشاطرين" ليساعدنا على العبور، وهو سينتظر حتى يتأكد من عبورنا. وفور وصولنا وجدنا أنفسنا ننضمّ إلى عوائل أخرى، حتى أصبحت المجموعة تتألف من أكثر من عشرين شخصاً، بعضهم من دون جوازاتٍ والبعض الآخر معه الجوازات ولكن خذله إغلاق البوابة. مجموعةٌ من الصغار كانت تنقل علب الدخان والشاي من تركيا إلى سوريا ويهرولون ضاحكين. تحرّكنا وفق إشارة المهرّب من أجل العبور. وقبل أن نصل إلى الخندق المزعوم بعدّة أمتارٍ ظهر دركيٌّ تركيٌّ على الجانب الآخر من الحدود، وأشار لنا بإصرارٍ بالعودة من حيث جئنا، وهنا طلب منا المهرّب الجلوس. لم أكن أفهم ما يجري لكنني أدركت أن سائق التكسي الذي أوصلنا لم يكن صادقاً أبداً. التفتّ إلى الخلف فلم أجده. عدنا أدراجنا حتى ذهب الدركيّ ثم كرّرنا المحاولة. وكان الشباب الذي استأجرناهم لحمل حقائبنا قد عبروا قبلنا وصاروا على الجانب الآخر. هنا عاد الدركيّ كالشبح وبدأ بإطلاق النار في الهواء. حالةٌ من الرعب سادت بين النساء والأطفال الذين راحت أمهاتهم تجرجرهم إياباً. بدأت إحدى النساء بالبكاء على طفلها الذي يبكي عطشاً هو الآخر. كان الماء معها ساخناً جداً فلم يشربه. ارتفعت طلقةٌ أخرى في الهواء فتخيلتها ستصيب إحدى طفلتيّ، بالرغم من تأكيد "المهرّب" أنهم لا يطلقون النار على العوائل، بل يحاولون منعهم من التقدّم فقط، ولكننا فقدنا الثقة به نهائياً. ولم نعد قادرين على العودة لننام في المسجد، لأن أمتعنا صارت على الجهة الأخرى. استمرّت محاولات الجري فوق الحجارة والأشواك والأتربة إلى أن عبرنا. كانت ليلةً لا تنسى.