لم تقتله القذيفة... لكنها حرمته من النطق

الطفل محمد

حتى وإن لم تصب نيران الأسد أحداً، فإن الرعب الذي تتسبّب به قد يترك آثاراً لن تمحى في المستقبل. قصة الطفل محمد واحدةٌ من آلاف القصص التي تحدث في حلب.

لم يكن محمّد، ذو العشرة أعوام، قادراً على القيام بأيّ فعل، أو حتى إخبارِي عمّا يخصّ حالتَهُ التي باتت تسوءُ في ظلّ ظروف النزوح. غيرَ أن والدهُ لا زالَ يحملُ ذكرى ولَدِه الأليمة أيّما ذِكــــــــرى، فقد خانتهُ دموعهُ عن كبتِها عدة مراتٍ وهو يعيد استرجاع تفاصيل الحادثة أمامي، ويتمتم بشفاهه العطشــــــى في لحظات صمتِنا: "الله موجود".
يقولُ أبو محمّد إنَّ ما حدَثَ لأكبر أبنائه لم يسبق أن سمعَ بمثله من قبل ولا رأى، وإن عجزَ أطباء مدينة حلب عن إيجادِ علاجٍ لحالته آنذاك أثبتَ ذلك جليّاً. بدأت مأســــــاة هذا الـــــــطفلِ - كــــــما يروي والدُه - قبل نزوحهم إلى ضفاف بحيرة الفرات، في منزله في حيّ (المشهد) في حلب. كان ذلك في الســـاعة الواحدة ظهراً، إذ كان الـــــطفل نائـــــــماً حين تم اســـــتهداف الحيّ بعدّة قذائف
هاون من قبل قوــــّات النظام، سقـــــطت إحداها في الشقّة التي تعلو مكان إقامتهم آنذاك. استـــــيقظ محمد باكــــياً عاجزاً عن الـــــقيام على قدميه، وقد تبوّل على نفســــه من شدة الخـــــوف. يــــــقول والدُه:
«إجيت لعندو لإحملو بس ما كــــــان عم يقدر يوقف ع رجليه».
بقي الطفلُ لمدة خمسة أيامٍ على هذي الحالةِ، غيرَ قادرٍ على القيام مطلقاً، مما دفعَ أباهُ لأخذهِ إلى طبيبٍ علّهُ يجد علاجاً لحالة ولدهِ الصغير، ولكن دونما جدوى. فقد اكتفى الطبيبُ بالإشارة إلى أن ما يُعانيه محمد أعراضٌ جانبيةٌ للخوف، وأنه سيستعيدُ عافيتَهُ قريباً.
بدأت حالة الطفل بالتدهور تدريجياً، ولم تزدد تلك الفترةُ (القريبة) التي أشار إليها الطبيبُ إلا بُعداً. فبعد مرور شهرٍ على حادثتهِ ما زال محمد غير قادرٍ على تحريك يديه ولا حتى على الكلام، ناهيك عن أنه يستيقظ من نومه صارخاً. بعد ذلك تم عَرضُ محمد على أكثر من طبيبٍ اكتفوا بإعطائه بعضَ الأدوية البسيطة، إضافة إلى تلقي العلاج الفيزيائيّ دون جدوى. ومع تسارع الأحداث الميدانية في حلب، والتي أدّت إلى نزوح آلاف العائلات، اضطرَّت عائلة محمد إلى النزوح خارج المدينة، ليصل بهم المطافُ إلى ضفاف بحيرة الفرات قرب مدينة مسكنة بريف حلب الشرقيّ. لتبني عائلتُهُ المكوَّنَة من سبعة أفراد، بما فيهم والداهُ وعددٌ من أقاربه، بعض الخيم هناك، حيثُ التقيتُ بهم.
بعد ما يقارب الشهر تقريباً من استقرار تلك العائلات على ضفاف البحيرة، كان والدُ محمد قد أعياهُ البحث عن عملٍ يعيلُ به أسرتَهُ الفقيرة، وإيجاد علاجٍ لأكبر أطفاله؛ تمكنّا من الاستعانة بطبيبٍ نفسيٍّ قدّم مساعدتهُ بالمجان لمحمد، ليثبت أيضاً - على حد تعبيره - أن حالة محمد لم يُلحظ مثلُها سابقاً، إلا أنهُ ثمة حالاتٌ شبيهةٌ بعض الشيء تعرّضَ لها أطفالٌ آخرون نتيجة شدة الهلع؛ منها ارتفاع نسبة السكّر في الدم ومشكلة سلس البول الليلي. لكنه اعتذر عن عدم استطاعته تقديم أية مساعدةٍ ملموسةٍ يُرجى نفعُها للطفل المصاب بالشلل نتيجة الخوف، مما زادَ أسى الأب والأم اللذين لا يزالان إلى الآن يرجوان بصيصَ أملٍ يرشدهما لتحسينِ حالة طفلهما غير القادر على الحراك مطلقاً. ولا يجدُ والدهُ، المعيلُ الوحيد للأسرة، إلا أن ينتظرَ المساعدات الغذائية من منظمة الهلال الأحمر، بعد فقدانهِ لعملهِ في مدينة حلب، وعجزه عن إيجاد فرصة عملٍ أخرى في أيّة مدينةٍ قريبة، لعدم توفر مكان إقامةٍ شاغرٍ له ولعائلته، حتى في المدارس أو الأبنية الحكومية، المأهولة بضيوفٍ آخرين..
يتنهّدُ أبو محمد في صــــمتهِ جرّاءَ عـــــجزه وقلة حيلتهِ، ويتمــــتم في تـــــلك اللحـــــظات وأنا أُطرقُ لســــــماعهِ يقول: "الله موجود".