لا يمكن الهيام بمدينتين

نحتها الفنان السوداني محمد حسين على شواطئ مرسيليا

حين ولدتُ وصفعتني «الداية أم أحمد»، قالت لي أمي إني لم أبكِ ككل الأطفال الراغبين في العودة إلى بطون أمهاتهم، بل فتحت عيني وتفحصت المكان، ثم غرقت في بكاء طويل. منذ ذلك الوقت وأنا أستحضر هذا المشهد كلما انتقلت من مدينة تسكنني مصادفة ودون اختيار لأنتقل إلى أخرى، حتى لو كان ذلك مروراً مؤقتاً، أشعر بصفعة «أم أحمد» وأشعر أني أريد البكاء من جديد.

هذه المرة لم يكن الحنين إلى أمي هو ما يشدني ولم يكن ألم مكان الصفعة، بل المنافي التي فرضت علينا وجنبتنا أن نحب المدن التي نمر بها.

كانت زيارتي الثانية إلى اسطنبول وأدركت أني أحفظ الكثير من شوارعها دون دراية، أليست المدن من يسكن ساكنيها؟

في مفرداتي الضيقة لا يعدّ الخروج من مدينة ما مغادرة، وإنما البقاء بين ملامحها مهما تغيرت الأمكنة. فحلب ما زالت تطغى بذاكرتها الجميلة على كل ما أشتهيه حين أريد الصمت أو التأمل او الوقوف مع الذات، وحتى حين أريد مقارنة زمن الثورة بين المدن السورية.

حين دخلت اسطنبول، بعد رحلة استمرت سبع عشرة ساعة من منفاي في مدينة كيليس الحدودية، لم تكن مراقبة الطريق ما يشغل بالي. وجدت الطريق فسحة للتفكير في كيليس ذاتها وكيف بات شرطاً على القادمين إليها ليس تعلم اللغة التركية بقدر ما تعلم لهجة حلب ومصطلحاتها وطعامها وعاداتها الاجتماعية، التي سيطرت على المدينة بكاملها. وكان هناك شعور آخر أردت الهروب منه، هو تحول الذاكرة من حلب إلى كيليس رغم محاولاتي الكثيرة في أن أهز رأسي مراراً للتخلص من ذلك.

هل بات على السوري أن يحمل مفتاح بيته وألبوم صور لمكانه ووجه جدته ليستعيرها حين يريد الدلالة على نفسه؟ هربت من فكرة اللاانتماء تلك إلى جهاز موضوع على الكرسي المقابل لمكاني لأقتل الوقت باللعب.

حين تنزل من الحافلة في الكراج تجد أمامك صورتين كتب على إحداهما «نعم» وعلى الأخرى «لا»، متلاصقتين بطريقة غريبة، وهما إعلانان بالقبول والرفض للاستفتاء الذي سيحدث في تركيا على تعديل الدستور. لا أخفي في العادة إعجابي بذلك المفهوم الذي يسمح لك بقول ما تريد وفعل ما تشتهي، ولكني في تلك اللحظة تذكرت مرة أخرى صفعة «أم أحمد» لا لتمنعني من العودة بل لتجبرني على البكاء كيف أن «لا» واحدة خلفتنا جميعاً بين مقتول ومعتقل ومنفي.

اسطنبول مدينة عظيمة. بدا صديقي الذي رافقني في شوارعها مستغرباً لكثرة المساجد حين رحنا نقلب تاريخها العتيق، ونوجد الأشياء التي نبرر من خلالها ما كان يرتكب أمامنا من ترف في الجمال لا يقاوم، لم أستطع معه إخفاء دهشتي لمدينة هي ليست حلب وليست قلب أمي.

وأنت تمر في شوارع المدينة، التي يتجاوز عدد سكانها أهل وطني كاملاً، تلاحظ الاختلافات الجذرية في اللباس والطعام واللون والمعتقد والدين، فلا تستطيع وصفهم بقرية من النمل كما نحن، حين لم نكن نعرف حدوداً للاختلاف والتوافق، وكان الجميع يدور في فلك واحد ومفاهيم واحدة، وحين أراد جزء منا الخروج عن القاعدة كان علينا أن نغادر المكان مرغمين.

دار في خيالي الجنوني أن ماذا لو قامت ثورة في هذه المدينة؟ ما الذي كان سيحدث وقتها، وكيف سيكون الانقسام، وهل سنكون نحن لواء المهاجرين؟

المضحك أني تخيلت أن يكون هناك فصيل للمثليين الذين يملؤون المدينة، واحترت في اختيار اسم له.

لعل الإنسان يبحث عن توازن ما حين يلتقي بنقيضه فيبحث خيالاً عما يريد أن يكون. حاولت استبدال ذاكرتي عن حلب خلال تجوالي في شوارع اسطنبول، ولكني تذكرت مقولة لحكيم مرزوقي «لا تبحث عن مدينة في مدينة، لن تجدها». شعرت وقتها أن اسطنبول تسخر مني، تلك العصية بسورها، البخيلة حتى بسرّ قهوتها المحمّصة التي كانت في وقت ما أمراً حرص السلاطين على عدم إخراجه منها كما قرأت يوماً. ليعود السؤال ملحاً هذه المرة، كيف وُلدِتْ حلب بكل تلك الخصائص إذاً؟ وهي المصرّة على سبقها في كل شيء، من رائحة القهوة والزعتر إلى سرّ صابون الغار، وصولاً إلى سور المدينة الذي يتعالى بصوت قدودها.

هربت إلى أول لافتة لمطعم حلبي رأيته في اسطنبول كيلا أتعلم مذاق طعام آخر. لم أنسَ لكنتي وأنا أحاور النادل والعمال. وابتسمت هذه المرة، فالعودة إلى رحم أمي كانت الطريقة الوحيدة كي لا أصفع من جديد.