أودت مجموعةٌ من العوامل بأسواق الذهب في مناطق سيطرة التنظيم إلى الهاوية، تارةً بانتقال القسم الأكبر من هذه السوق إلى البلدان أو المدن المجاورة، وتارةً بإفلاس وإغلاق ما بقي من محلاتها. فيما عزف الناس عن اقتناء الذهب، إما بسبب أوضاعهم المادية، أو لعدم الثقة بالذهب الموجود في أسواق داعش.
في الفترة التي سبقت سيطرة تنظيم الدولة على المناطق المحرّرة شرق سوريا، مرّت الأسواق التجارية لمدن الرقة والطبقة والميادين والبوكمال بمرحلة نشاطٍ غير مسبوقة، حين نشأ ما يمكن تسميته بالاقتصاد الحرّ ولو في شكله البدائيّ. وأسهمت الطفرة السكانية التي أحدثها توافد النازحين إلى تلك المدن والمراكز في انتعاش أسواقها التجارية. يضاف إلى ذلك ظهور طبقةٍ من الميسورين الذين اغتنى جلّهم من تجارة النفط التي شاعت ذلك الوقت، والتي ضخّت الكثير من المال في جيوب المستفيدين منها، لينفقوها بدورهم في الأسواق المحلية. وكان من أهمّ الأسواق التي استفادت من هذا النشاط سوق الذهب، الذي تضاعف عدد رواده، من باعةٍ ومشترين، بحكم انخفاض قيمة الليرة وهيمنة ما يعرف بـ"قانون الذهب"، الذي يدفع الناس إلى شراء المعدن الثمين، بوصفه الملاذ الاقتصاديّ الأكثر أمناً في ثقافة السوريين. لكن، ومع سيطرة داعش على هذه المناطق، أخذت الأمور تتغيّر بشكلٍ متسارع.
ويمكن تقسيم العوامل التي أسهمت في تدهور سوق الذهب تحت الحكم الداعشيّ إلى عاملين أساسيين:
إجراءات داعش المالية
أدّت سيطرة التنظيم على آبار النفط إلى تحويل المداخيل الضخمة لهذه "التجارة" من جيوب من كان مستفيداً منها إلى خزينة التنظيم الذي صار يستخدمها كوقودٍ لحروبه التي لا تنتهي في سوريا والعراق، مما أخرج هذه الكتلة المالية من دائرة إنعاش الحركة التجارية لأسواق المناطق المحرّرة، وعلى رأسها سوق الذهب.
حتى الآن، لا يُعرف مصير محاولة داعش الارتجالية لسكّ عملتها الذهبية، ولكن افتقار التنظيم إلى رؤية وكوادر بناء اقتصادٍ متماسكٍ أدّى إلى جعله يتعامل مع سوق الذهب بطريقةٍ عامةٍ، مثلها مثل باقي الأسواق المهملة أصلاً، في حين أن هذه السوق المهمة تحتاج إلى جهازٍ إداريٍّ مهنيٍّ قادرٍ على مراقبة الأسعار ودقة العيارات وحجم التداول والتنبؤ بالمخاطر حتى يضمن استقرارها، وليشــعر من يريد اقتناء هذا المعدن الغالي بالطمأنينة.
أما والحال هذه فمن الطبيعيّ أن يخسر الذهب جزءاً ليس بالقليل ممن كانوا يفضلون اقتناءه، لصالح شراء العملات الصعبة وعلى رأسها الدولار الأمريكيّ. مع العلم أنه لم تسجّل أية حادثةٍ غشٍّ في معايير الذهب في المناطق المذكورة حتى الآن.
ولجأ بعض متنفــذي التنظيم إلى استغلال الكثير من الأغنيـــــاء، فيما تمّ الاستيلاء على قصورٍ وفللٍ لبعضهم الآخر. وبالتالي حصل التنظيم، أو بعض رجالاته، على كمياتٍ كبيرةٍ من الأموال والذهب. ولا يُعرف إذا كان قد تمّ نقلها إلى خارج البلد لبيعها أو ما زال من حازها يحتفظ بها.
التصادم مع المجتمع
جاء فــــرض تنظيــم الدولة الإسـلامية لقوانينــه وفتاواه ليجعــــل الناس، وخاصةً طبقة التجار منهم، تشعر بالقلق والريبة من غرابة أحكام فضّ النزاعات المالية التي تعتمدها داعش على وجه الخصوص. ليؤدي ذلك إلى نزوح القسم الأعظم منهم، مع ما يملكونه من ذهبٍ ونقودٍ، إلى الدول المجاورة، فيما فضّل بعضهم الآخر النزوح إلى مناطق سيطرة النظام.
كما أدّى تردّي الأوضاع المادية بشكلٍ حادٍّ، مع تضييق التنظيم المستمرّ على الحرّيات الفردية حتى في أبســــط أشكالها، كحلاقة الذقن وشكل اللباس، إلى موجات نزوحٍ بأعدادٍ مهولة. وغنيٌّ عن القول إن فئة الشباب كانت أول النازحين، لتتوقف حالات الزواج وما يصاحبها من عاداتٍ بشكلٍ شبه كليٍّ، وليفقد سوق الذهب شريحةً من أهم زبائنه الذين لا يمكن التقليل من مدى اعتماد محلات الصاغة عليهم.