حكم البابا صحافـيٌّ سوريٌّ مشاكس. وقبل أن ينحاز بشكلٍ صريحٍ إلى الثورة منذ أيامها الأولى، ويشغل فيها موقعاً مشاكساً آخر لا يرضي الكثيرين؛ عمل لسنواتٍ طويلةٍ في الصحافة السورية، وسجّل تجربته في هذا الكتاب، الذي صدرت طبعته الثالثة عن دار «الغاوون» ببيروت، عام 2012.
إنه كتابٌ لا عن خوفٍ واحدٍ، بل عن مخاوف كثيرةٍ كما يقول: فهناك الخوف الذي انتابني أثناء كتابة المقال، والخوف الذي شعرت به يوم نشر المقال وانتظار ردّة فعل السلطة، والخوف يوم وصول الاستدعاء لمراجعة المخابرات من أجل المقال، والخوف خلال وجودي داخل بناء المخابرات وخضوعي للتحقيق مع الهواجس المختلفة التي يستدعيها، ثم الخوف الذي تولّده التجربة وتتركه في النفس بعد انتهائها، ومدى تأثيره في المباشرة بكتابة مقالٍ جديد، أو الصمت والانتظار حتى تنتهي آثار تلك التجربة.
ويتألف الكتاب من مجموعةٍ من المقالات التي نشرت في أماكن مختلفة، ولكن يجمع بينها البحث عن حريّة الصحافة في ظلّ نظام القمع، حين تحوّلت إلى مهنةٍ ذليلةٍ وتابعةٍ تشوّه الحقائق، وتقلب المفاهيم، وتمسح البلاط، بعد أن أُلغي ازدهار الصحف الذي عرفته سورية الديمقراطية فبل استيلاء حزب البعث على السلطة، وصارت للبلاد جريدةٌ واحدةٌ بأسماءٍ ثلاثة (تشرين، الثورة، البعث)، وخاصّة بعد تصريح أحمد إسكندر أحمد، وزير الإعلام الشهير، بأنه يريد الإعلام السوري كله مثل فرقة سيمفونيّة، يقودها مايسترو هو الوزير نفسه، وكل عازفيها ينظرون إلى «العصا» التي يحملها، ويهتدون بما تمليه! مما أسهم في تهميش من تبقّى من الصحافيين المحترفين والمحترمين الموروثين عن العهود السابقة، ليملأ مكانهم موظّفون عقائديّون انتشروا بشكلٍ سرطانيٍّ، وأسندت إليهم رئاسة التحرير والإدارات، وفق الولاء والمحسوبيّات، فكان كلّ همّهم أن يكونوا أمناء لأجهزة الأمن التي جاءت بهم أصلاً.
وكان من نتائج ذلك هذه المطبوعات الثلاث الرثة التي عرفها السوريون وعافتها أنفسهم، فصارت أرقام توزيعها تتناقص بشكلٍ مخجل، وأرقام مرتجعاتها ترتفع، في حين نفدت عشرون ألف نسخةٍ من جريدة «الدومري» المستقلّة والساخرة، خلال ساعاتٍ قليلة، ثم تلتها الطبعة الثانية بنفس السرعة. وهو ما حرّض ـ ولا شكّ ـ محنّطي الإعلام السوري للكيد للجريدة حتى تمكّنوا من منع توزيعها وسحب ترخيصها، الذي كان الفنان علي فرزات قد استطاع الحصول عليه من بشار الأسد نفسه، أيام كان يعِد بالانفتاح والإصلاحات.
هؤلاء أنفسهم؛ وزير الإعلام ونقيب الصحافيين المزمن صابر فلحوط وجوقتهم، هم من تباكى على حريّة الإعلام، وأدان بأشدّ العبارات قرار فرنسا بوقف بثّ قناة «المنار» اللبنانيّة على أراضيها عـــــــام 2004، دون أن يــــرفّ لهم جفنٌ من حيــــاءٍ وهـــم يعرفون بالتفصيل المملّ القوائم السوداء لكتابٍ سوريين ممنوعين من الظهور على شاشة تلفزيون بلدهم، الذي يعشّش الفساد وعدم الكفاءة في كلّ مفاصله، حتى هجره المشــــاهد ما أن أنعم الله عليه باختراع الستـــــالايات وإمكـــان التقــــــاط بثّ قنــــوات العالم، فيما ظلّ هذا التلفزيون على حاله من الكآبة والإملال.
يتنقّل حكـــم البابا بين موضوعات كتابه المريرة بسخريةٍ وخفّةٍ لافتتـــين، مما يخفّف قليلاً من وطأة المشهد، ويضيف كثيراً إلى متعة القارئ، عبر التقاطاتٍ ذكيّةٍ وتعبيراتٍ مبتكرة وأمثلةٍ صارخة الدلالة يأتي بها المؤلف من كواليس الإعلام السوري التي يعرفها جيداً.
واليــــوم، وبعد أن تــــورّط هـــــذا الإعلام في التحريض على سفك الدم والعقاب الجماعيّ، والتستّر على أعمال قتلٍ وتبريرها؛ لم تعد قضيتنا معه مجرّد مساءلةٍ عن الحريّات ومحاسبةٍ على الفساد، بل صار مخطّطو سياساته والمسؤولون عنه شركاء في جرائم موصوفةٍ كثيرة، ولا بدّ أن يطالهم العقاب القانونيّ، كما سيطال مرتكبي هذه الجرائم.