كتائب "الحمامجيّة" قادمة

إلى جانب القرارات الكبرى التي يصدرها تنظيم الدولة، والتي تهدف إلى إحداث تغييراتٍ مؤثرةٍ في نمط حياة محكوميه، بحجّة النهج الصحيح؛ يعمد التنظيم إلى التدخّل في كلّ عادات السكان. فقد أصدر ديوان الحسبة التابع لداعش في البوكمال قراراً يقضي بمنع تربية الحمام فوق أسطح أبنية المدينة، ويمهل المربّين مدّة أسبوعٍ للتخلص من طيورهم.

وطالب البيان "عوامّ" المسلمين بإبلاغ الحسبة عن أيّ شخص تسوّل له نفسه الاستمرار على هذا العمل، قطعاً للمفسدة المترجّحة من إيذاء المربّين لجيرانهم المسلمين وكشفٍ للعورات وهدرٍ للأوقات. فيما يتوعّد القرار مخالفيه بالعقوبة "التعزيرية"، من غرامةٍ وسجنٍ وجلد. وبذلك تنضمّ أقلية الحمامجية المسكينة إلى باقي "الفئات" الاجتماعية المقموعة من قبل الدواعش، مثلها مثل مستمعي الأغاني ولاعبي الورق وأصحاب قصّات الشعر والذقون غير المتناسبة مع هيئة "العوام" التي يرضى عنها التنظيم ومتملقوه المحليون. ليشكّلوا، مع متن الأغلبية الصامتة (المدخّنين)، تياراً اجتماعياً عريضاً يحرمه داعش من تسلياته، دون أن يوفّر له بدائل عنها سوى العقوبات.
لكن، في الوقت الذي يستطيع فيه المدخّنون تحدي الضيم الداعشيّ، وتدبّر أمر سكائرهم خفيةً وبصعوبة؛ يستحيل على الحمامجية إخفاء هوايتهم أو مهنتهم بعيداً عن سماء المدينة التي تترصّدها أعين الدواعش و"عوامّهم". وفي هذه الحال لن يجد الحمامجيّ من خيارٍ سوى التوقف عن ولعه، دون أن يعرف مصير طيوره التي دفع لأجلها سنواتٍ من الصبابة، ومبالغ غير قليلةٍ، وبضع معارك مع زملاء الكار على الطيور التي أغوتها أسرابٌ أخرى.
لا شكّ في أن تربية الحمام ليست من الهوايات المحبّذة اجتماعياً. وقد سبق أن حازت، في الكثير من المناطق، على لقب "السوسة" التي تسيطر وتتحكم بأصحابها لمدّةٍ طويلةٍ من الزمن. وغالباً ما تلصق بأصحابها الكثير من الصفات الجاهزة التي لا تمتّ إلى المحاسن بصلةٍ، مما يدخلها، بطريقةٍ ما، في إطار العادات التي تصنّف ضمن (الظواهر السلبية) المضرّة أو غير المستحبّة اجتماعياً. وبهذا يراهن داعش على الرأي المحافظ الكامن في المجتمع، والذي لن يستطيع إبداء معارضةٍ علنيةٍ لقراراتٍ كهذه قد يجدها الكثيرون جيدةً نظرياً، بعد أن يغضّوا النظر عن ما سيحدث للمتضرّرين المباشرين من هذا الهوس الداعشيّ، ودون أن يدركوا الأسباب العميقة التي تقف خلف هذا النوع من القرارات التي لا يمكن عزلها عن السياسة التي يتبعها التنظيم في تغيير المجتمع وقولبته بالشكل الذي يراه مناسباً، مستخدماً في ذلك بالطبع قوّة التعزير، من جلدٍ وسجنٍ وغراماتٍ، لإخضاع المجتمع وإرهابه، فضلاً عن التشهير بـ"المخالفين" الذين كان ذنبهم أن اعتادوا على التدخين، أو على حنجرة ذقونهم، أو طيّروا الحمام قبل أن تحلّ في ديارهم "دولة الإسلام" العظيمة التي سيهتزّ نظامها بسبب سيكارة!
وإذ تستهدف هذه القرارات بمجملها فئة الشباب في المناطق الخاضعة لداعش، فربما كانت الغاية منها في النهاية هي إغلاق طريق الحياة الطبيعية عليهم لدفعهم إلى التوجّه نحو ساحات القتال في المستقبل. وهو ما يبدو بعيداً عن تفكير الذين لم ينخرطوا في صفوف التنظيم طواعيةً، ولم يطيروا من الفرح بقدومه إليهم. لكنها، في المقابل، ستزيد الاحتقان الذي بات من الصعب حصر أسبابه ضد داعش، خصوصاً في أوساط الشباب الذين لم تغرِهم دعاية الجبروت.
قد يخيّل للدواعش أنهم يقومون بعملية إصلاحٍ شاملةٍ للمجتمع الفاسد الذي ينظرون إليه بصفته رعيةً وعوامّاً خطائين، بينما يقوم رجال الحسبة بمهامّ تقويم الناس الذين أعماهم الشرك والكفر لسنوات. لكن، في مقابل ذلك، يصعب على صاحب السلطة أن يخفي هوسه بسلطته طويلاً، مهما غلّفها بثياب القوانين الشرعية التي ستتساقط مع الأيام لتكشف عن جنونٍ ووجوهٍ بشعةٍ لن تقوى الحياة الطبيعية على تحمّلها. وفي النهاية، توجد هذه القوانين لكي تخترق.