- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
في مسكنة حين كشفت العشيرة هشاشة الهندسة البعثية
يمكن أن يقال إن ما عايشته مسكنة أعاد صهر هويّة أبنائها المكانية وانتماءَهم لها في بوتقة الهوية العشائرية، وصلة (ذوي القربى)، إذ لحق الجميع بأقربائهم، إما في مناطق سيطرة النظام، أو في تلك الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديموقراطية"؛ بمعنى أن البلدة أعيد هيكلتها إلى مايشبه فترة ما قبل المغمورين وبناء السد، حيث الجميع مغمورون، ومغدورون أيضاً على خاصرة نهر الفرات.
نبذة تاريخية
لم تكن مملكة (إيمار) الواقعة على خاصرة نهر الفرات قد اكتُشفت بعد حين بدأت عمليات بناء (سد الطبقة) الشهير عام 1968، لم يعبأ حكام سوريا آنذاك بمدينة يعود تاريخها حتى العصر البرونزي في منتصف الألفيّة الثالثة قبل الميلاد، والذي بدأت تتشكّل معه البنى الثقافية والسياسية المميِّزة لحضارات الشرق القديم.
لربما يتذرّع البعض بأن للمصلحة العامة -بناء سد الفرات- أفضلية دائمة على البحث والحفريات المعرفية، وبأن المستقبل لا بدّ وأن يُفضي إلى إقصاء التاريخ أو تنحيته جانباً؛ "سنجعل من ذاكرة شعبنا صفحة بيضاء لكي نكتب عليها أجمل العبارات وأنبل الأفكار" يقول ماو تسي تونغ، الديكتاتور الكبير، وجاء في رواية (1984) لجورج أورويل: "سنعتصركم ونفرغكم مما في أنفسكم، ونملؤكم بما في أنفسنا".
في العام 1972 اكتُشفت إيمار (مسكنة حديثاً) -بارباليسوس في العصر البيزنطي، بالس خلال العصر الإسلامي- في المنتصف بين حلب والرقة، تفصلها عن كلتيهما مسافة تقدّر بنحو 90 كيلومتراً؛ اتُصفت التنقيبات الأثرية الفرنسية فيها، والتي استمرت حتى خريف العام 1976، بأنها "إنقاذية سريعة"، إذ أدى ارتفاع منسوب المياه لاحقاً في "بحيرة الأسد" إلى إيقافها، بعد أن كشفت عن معابد كُرّست لبعل وعشتار، وحوالي 1500 رقيم باللغة السومرية، الأكادية، الحورية، والحيثية، وبموضوعات تتنوع بين الإدارة، الدين، المعجميّة، السياسة، الأدب، التعويذات، الرسائل، والوصايا.
حافظ وبشار الأسد
كان سد الفرات/الطبقة بالنسبة لإيمار بداية حقبة جديدة من تاريخها، ويعتبره حزب البعث "أعظم"منجزات "الحركة التصحيحية" التي قادها حافظ الأسد عام 1970… غُمرت المنطقة بالمياه التي شكّلت "بحيرةَ الأسد"، ما بات يعرف لاحقاً بـ (الغمر)، واضطُر قاطنوها إلى مغادرة منازلهم قاصدين اتجاهات شتى (مسكنة الحديثة، ريف حلب، الرقة، والحسكة) وأُطلق عليهم اسم (المغمورون)، وظلّ ذاك النعت بمثابة أحد أشكال التمييز الطبقي الذي كان يمارس بحقّهم في المناطق التي ارتحلوا إليها وسط وعود وتعهّدات من الحكومة بتعويضهم؛ أهداهم الأديب السوري (عبد السلام العجيلي) روايته الصادرة عام 1979 والتي تحمل الاسم ذاته (المغمورون) قائلاً: "إلى الذين على رؤوسهم المغمورة بمياه سد الفرات بُنيت أمجاد وازدهرت حظوظ، إلى المغمورين، أهدي روايتي هذه".
على بعد نحو 30 كيلومتراً غرب إيمار المغمورة بالمياه كانت بلدة مسكنة، تقطنها عائلات من عشائر شتى، معظمها من (عشيرة خفاجة)، تمتلك غالبيّة أراضيها... أصبحت فيما بعد ضمن "أملاك الدولة" التي بنت فيها معملاً للسكر، ومجمعاً للأبقار، ومحطتي ضخ للمياه؛ ارتحلَ إليها المغمورون، ثم أقيمت قربها "منشأة الأسد" لتأمين المياه لفلاحي المنطقة، لم يطل بها الأمر حتى فشلت، إذ أدى سوء تخطيطها وإدارتها إلى تملّح في التربة.
كان شبّانها يرتادون معاهد استصلاح الأراضي، قبل أن يتّجهوا فيما بعد لدراسة ظواهر التصحّر؛ كما بنيت فيها مجموعات من المنازل الإسمنتية الصغيرة بمساحة (8 × 8) للمنزل الواحد، سمّيت بـ (مزارع الدولة) كـ تعويض لمن خسروا منازلهم وأملاكهم في قاع البحيرة آنذاك، مع العلم أنهم أُلزموا بدفع رسوم شهرية لقاء العيش فيها.
كانت عملية اقتطاع الأراضي تلك من الملّاك لصالح نظام الأسد الأب، وتوزيع بعضها، وعملية توطين المغمورين، وإقامة المزارع فيها... إحدى أشكال الهندسة المجتمعية التي رسمت ملامح مسكنة فيما بعد، والتي كان لها بليغ الأثر على حاضرها مع أول اختبار حقيقي للتركيبة السكانية فيها (ثورة آذار 2011)، إذ أثارت من الضغائن ما أثارته في مناطق أخرى هاجر إليها المغمورون آنذاك في شمال شرق سوريا، ولطالما سمعت عبارة: "المغمورون استولوا على أرضنا"، لم يكن أحد يجرؤ على القول إن الدولة استولت على البقرة وقسّمت ليتراً من الحليب بالسنتيمتر المكعب!.
"من نكون نحن في هذه الماكينة الكبيرة التي يسمونها الدولة؟ نحن حدائد صغيرة، براغي أو أسلاك أو مسامير دقيقة وغليظة… قطع من المعدن لا بدّ للماكينة منها، وفي نفس الوقت لا قيمة لها ولا نفع إلا في مكانها من الآلة" ينقل العجيلي في روايته عن فلاحين صدَر القرار بتهجيرهم.
الثورة السورية
في عهد الأسد الابن لم يختلف الأمر كثيراً عما كان عليه في عهد والده؛ ما يمكن ذِكره هو أن إدارته في بدايتها قامت بتوزيع أراضٍ كانت من ضمن (أملاك الدولة) بمعدّل 3 هكتارات لكل عائلة اشتغل أحد أفرادها مدة 9 أشهر على الأقل في الزراعة أو قطف القطن أو رش المبيدات لدى المنشأة آنذاك.
حين انطلقت الثورة كان تعداد سكان مسكنة حوالي 40 ألف نسمة من العمال والفلاحين، قسم لابأس به منهم يعملون في السعودية؛ خرجت أولى مظاهراتها ضد نظام الحكم في تموز 2011، واستمرت مع حملات المداهمة والاعتقالات التي كانت تشنها أجهزة الأمن فيها، حتى خرجت المدينة عن سيطرته في آب 2012، وهو العام الذي أطلق فيه النظام سراح القيادي الإسلامي هاشم الشيخ (أبو جابر).
حين أفرج النظام عن هاشم الشيخ، وهو أحد أبناء خفاجة، قام إلى جانب عدد من أقربائه وآخرين من (عشيرة الجريّات) بأول عملية مسلّحة في مسكنة (10 آب 2012)، حيث هاجموا مركز أمن الطرق في البلدة، بعد الاتفاق مع أحد عناصر الشرطة فيه لإدخالهم وتسليمهم ما به من أسلحة وسيارات... لم يُقتل أحد من المهاجِمين، بينما قتل 3 عناصر من الشرطة، بينهم رئيس مفرزة الأمن العسكري المساعد (أبو غدير)، ولم يتوقع أحد على الإطلاق أن يفرّ عناصر الأمن جميعهم في اليوم التالي ليُعلن عن (تحرير مسكنة).
لاشك أن النظام أراد أن تأخذ الأمور في المنطقة هذا المجرى، ويتركها لصراع الهويات الصغيرة (العشائرية، الدينية، المذهبية، العرقية... إلخ)؛ في تصريح لأورينت نت يقول (محمد أبو العز) أحد المشاركين في العملية، إن الكثير من شبان مسكنة كان قد تم تصنيفهم أمنياً لدى النظام كـ منتمين لحركات وهابية وسلفية، حسبما عُثر عليه في قرص مدمج داخل مفرزة الأمن بعد فرار عناصرها، كما عبّر أبو العز عن أن أحداً لم يتوقع أبداً أن تكون النتيجة (تحريراً) بعملية صغيرة كهذه، في بلدة استراتيجية كـ مسكنة شكّلت فيما بعد نقطة انطلاق لمهاجمة مدينتي الطبقة، ومن ثم الرقة، من الجهة الشمالية الغربية.
حركة أحرار الشام
أسس هاشم الشيخ كتيبة مصعب بن عمير، بينما تولى أبو العز، بادئ الأمر، إدارة المجلس المحلي في مسكنة وقطاعاتها الخدمية، قبل أن يغادر البلدة متجهاً إلى حلب لتأسيس كتيبة فيها، بعد ضغوطات وخلافات مع الشيخ؛ انضم الأخير بعناصره فيما بعد إلى (حركة فجر) الإسلامية، التي شكّلت بدورها نواة (حركة أحرار الشام)، وتولّت كتيبته بقطاعاتها المختلفة إدارة البلدة برعاية الحركة وبمباركتها، عقب سيطرة المعارضة على مطار الجراح.
أثارت سياسات أبو جابر الكثير من الخلافات: لم تكن جلسة تتطرق للحديث عن أوضاع القطاع الخدمي في مسكنة تخلو من حديث عن أن (عشيرة خفاجة) تحتكر إدارة الأمور الخدمية من الأفران، الكهرباء، الماء... إلخ دون غيرهم، مادفع أبناء العشائر الأخرى للانضمام إلى كتائب مختلفة كانت في البلدة (جيش الإسلام، لواء التوحيد، وغيرهم)، وانضم أبناء (الجريات) ممن شاركوا في العملية المسلحة الأولى آنذاك لـ (جبهة النصرة)، ثم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من منطق الندّية للحركة، والعناد والمراهقة الهويّاتية ذاتها التي اكتسحت مناطق شتى في سوريا كان قلب الصراع فيها قائماً على انتماءات صغيرة، لكنها طبقية بالدرجة الأولى.
هاشم الشيخ
تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)
نتيجة لذاك التوتر والاحتدام بين الحركة وتنظيم الدولة، قُتل (حسين الحمدون/ أبو ريان) طبيب الأطفال من خفاجة مسكنة، وعضو الجناح السياسي في الحركة، كان يدير حينها معبر تل أبيض الحدودي مع تركيا في ريف الرقة، وأعقبَ مقتله سيطرة التنظيم على البلدة بالكامل في 12 كانون الأول 2013 ، لتغادرها أحرار الشام، ويتسلّم زمام الأمور فيها "أبو محجن" و"أبو العباس" (من الجريات، شاركوا في العملية الأولى مع أبو جابر) وعناصر من خارج سوريا
بعد أيام قليلة من طرد تنظيم الدولة حركةَ أحرار الشام، شن التنظيم هجمات متزامنة على مدن وبلدات الخط الواصل بينها وبين الرقة (دبسي عفنان، الطبقة، المنصورة) التي كانت خاضعة للحركة، لتمتد بعد ذلك رقعة الاشتباكات ويسيطر التنظيم على الرقة مطلع كانون الثاني 2014.
تحولت مسكنة بعد ذلك لمرتع استخدمه عناصر التنظيم للترويح عن النفس.. عشرات المنازل التي باتت فارغة بعد مغادرة الحركة وعناصرها من أبناء المنطقة، مثلما هو الحال بالنسبة لنظيرتها في مدينة الطبقة، قطنتها عائلات العناصر غير السوريين في التنظيم.
ونتيجة لسوء الأوضاع الاقتصادية فيها، هاجر الكثير من سكان مسكنة إلى تركيا وأوروبا، واستمروا على هذه الحال حتى بداية تقهقر تنظيم الدولة عسكرياً، واقتراب قوات النظام السوري من دير حافر في ريف حلب؛ حين هاجر قسم كبير منهم إلى منبج، ومن ثم الطبقة لدى سيطرة "قوات سوريا الديموقراطية" عليها مطلع أيار 2017.
بعد شهرين، حزيران 2017، سيطرت قوات النظام السوري وحزب الله اللبناني على البلدة الخالية من السكان تقريباً، الشبان على وجه الخصوص، وسارعت بتشغيل محطات ضخ المياه فيها المسؤولة عن تغذية مدينة حلب، لتبدأ بعدها بعض العائلات النازحة في منبج، وريف الرقة خصوصاً، تلك التي قوامها كبار السن والنساء والأطفال بالعودة، إضافة إلى بعض العاملين في قطاعات الخدمات والتجارة ممن لم يغادروا إلى الخارج، وأمِنوا العودة إلى منازلهم، ويعيش غالبية النازحين سورياً في الطبقة ومنبج ودبسي عفنان في ريف الرقة.