مع نتائج الانتخابات التي جرت في إستانبول مؤخراً، لاختيار طاقمٍ جديدٍ لرئاسة الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، حصل السوريّون الثائرون على ممثلهم الرسمي الخامس، الشيخ أحمد العاصي الجربا، بعد أن مرّ هذا التمثيل، سواءً في عهد المجلس الوطني السوري أم في عهد الائتلاف اللاحق، على كلٍ من الدكتور برهان غليون، والدكتور عبد الباسط سيدا، والأستاذ جورج صبرا، والشيخ معاذ الخطيب، كما هو معروف بالطبع.
والحال أن هذا «التداول» على قيادة المعارضة السياسية السورية، أو تمثيلها على أقل تقدير، خلال عامين، يبدو مفرطاً إلى درجة تستدعي القلق، وخاصةً مع استعراض التوجّهات المتباينة لهؤلاء الذين تعاقبوا على «كرسي» رئاسة الثورة المفترض.
فغليون أستاذٌ جامعي ومفكّرٌ مرموق، ومن أوائل الداعين إلى التوجهات الديمقراطيّة ودعم الحريّات العامة، حين كانت الأصوات الأعلى في الثقافة والسياسة العربيّتين قليلة الاهتمام بهذه النواحي، لصالح خياراتٍ يساريّةٍ ودولتيّةٍ وقوميّة. أما سيدا، الأستاذ الأكاديمي الآخر، فذو تجربةٍ في الحراك السياسيّ الكوردي، دون أن يعني هذا كونه معروفاً بقوّة في الوسط السوري عموماً، أو مؤثراً بفاعليّة بين الكورد أنفسهم. في حين يأتي صبرا من قيادة ظلٍّ للقامة التاريخية الكبرى لرياض الترك، كأمينٍ عامٍ لحزب الشعب (الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي، سابقاً). وبخلاف الثلاثة الأوائل هؤلاء، الذين يتبنّون خياراتٍ علمانيّةٍ وردت إلى السياسة من محضنٍ ثقافيٍّ، كان اختيار الخطيب، الشيخ المحافظ والمتنوّر في آنٍ (قليلٌ من يعرف ـ أو يُعنى ـ أنه مهندسٌ من حيث التحصيل الجامعي)، وممثل مدينة دمشق في الائتلاف. ليحطّ الرحال أخيراً عند «شيخٍ» من نوعٍ مغاير، هو الجربا، سليل عائلةٍ من زعامة قبيلة شمّر العربيّة الشهيرة، والمرتبط بعلاقات متميّزة مع السعوديين وسواهم في الخليج.
وإذا كان من المبكّر وغير المفيد أو الممكن، الآن، إجراء مراجعة أو جردة حساب لـ«عهود» هؤلاء المتسارعة، فإنه من المشروع التساؤل عن طبيعة هذا المكان أو المنصب الذي يصحّ أن يحتلّه رجالٌ على هذه الدرجة من التباين في الأفكار والتأهيل والخلفيّات والعلاقات في أوساط الثورة أو خارجها؟ وإذا كانت أبسط «الأعمال» والوظائف تتطلّب نوعاً محدّداً من المسار المهنيّ، فما هو نوع الـ C.V المطلوب لـ«رئاسة» معارضة؟!
ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم أحد عوامل عدم الاكتراث الواضح الذي أبداه الشارع السوري ومجتمع الثورة بنتائج هذه الانتخابات أو المحاصصات أو توافقات الكتل الفاعلة في أعلى الهرم السياسي. فقد استنفد القادة الأوّلون الآمال والتطلّعات والتحليلات، في كلّ مرّةٍ كان هذا الشارع يُعلم باسم ممثّله عبر الإعلام، يتقدّمه عددٌ من الدهاقنة والمبشّرين بقرب تحقيق الآمال المنتظرة في الأمن والدعم والحريّة... وإسقاط النظام.
ودون أن يعني الأمر قصوراً في إمكانيّات هؤلاء وأدائهم بالضرورة، فالمعوقات الداخلية والخارجية معروفة على الأغلب؛ ولكنّ أصحاب الحاجات الملحّة لم يستفيدوا شيئاً جاداً من المساعي التوافقيّة الحثيثة التي بذلها غليون لتوحيد المعارضة في جسم سياسي، كان المأمول أن تدعمه القوى الخارجية، ولا من الإدارة الباهتة لسيدا وتلعثمه أمام الإعلام، ولا من النبرة الخطابية، التي فقدت إغراءها بسرعة، لصبرا، ولا من حسن نيّة الخطيب... إلخ.
وإذا كان الرئيس الجديد للائتلاف قد اختار أن لا يلقي كلمةً بمناسبة توليه هذا المنصب، واتجه بزيارةٍ إلى الداخل، واعتنى بتسليح المقاتلين وتوازن قوّتهم مع قوات النظام وحلفائه على الأرض، كحدٍ أدنى مطلوبٍ الآن؛ فإنه أراد أن يكرّس الانطباع بأنه يعتمد طريق الأفعال لا الأقوال، وهي الطريق الوحيدة السالكة حالياً بين أي «مسؤولٍ» في المعارضة السياسية، وبين الجمهور العريض للثورة، المتوزّع بين جبهات القتال، وفوضى وفقر المناطق المحرّرة وحاجاتها الكثيرة، والمنافي العديدة التي صار استقبالها للمهجّرين واحتضانها لهم موضع تجاذبٍ وتذمّر داخليين أحياناً، والمخيّمات التي طال عمرها أكثر مما ينبغي. وأمام هذه الاستحقاقات، يتوجّب على العاصي الكثير... ونحن محكومون بالانتظار!