في سجن الحسبة في الميادين

كان الهواء حاراً ورطباً بأنفاسنا، نحن المسجونين العشرين في غرفة جعلتها حسبة داعش، وغرف أخرى من قبو بناء سكني، سجناً لمرتكبي المخالفات الصغيرة.

رغم اعتيادي على عجائبية الدواعش أحسست بالاستغراب بأن أُسجن عقوبة على حقي الطبيعي في التدخين، خاصة في هذه الظروف التي تمر بها داعش ونمر بها نحن مع الغارات والموت والجوع. قادني التهور إلى تحلل فجائي بعد طول حذر واحتياط، فأشعلت سيجارة على سطح المنزل الذي نزحت إليه مؤخراً قرب مدينة الميادين. قلت كيف للحسبة أن تراني في هذا الصباح الباكر على السطح وأثناء غارة لطائرات التحالف على المدينة القريبة التي كنت أخمن أي الأحياء قصفت؟ وكنت مطمئناً إلى أن «الإخوة» لا بد أن يكونوا مشغولين بما هو أهم من سيجارتي، وبأنهم سئموا ملاحقة الناس على التفاهات، لأتخفف من شروط الأمان التي أتخذها عادة. لكن ظني لم يكن في محله، إذ ألقي القبض عليّ بعد قليل نتيجة وشاية من «راصد» رآني. لم أجادل أو أمانع، بل كنت مثالاً «للمذنب المتلبس»، ما جعل الرحلة القصيرة إلى السجن تمرّ بيسر. ولم أكن خائفاً، فتهمتي صغيرة. بضع أيام سجن وبضع سياط أُجلدها ثم أخرج.

في السجن بادرني متهم «حلاقة» بالسؤال عن تهمتي، ثم أخبرني أن وجبة واحدة فقط توزّع على المساجين كل يوم، وشدد على أهمية أن ألتزم بالصلوات وبالسنن وبالإصغاء الكامل لشرعيي السجن وحفظ ما ينبغي حفظه من المطويات الورقية التي يحافظ عليها الجميع كأطفال مدرسة صغار يحافظون على دفاترهم. وحاول حثي على الحديث هامساً عندما سألني عن آخر الأخبار لأنه منقطع عنها منذ أسبوع، حسب ما قال. لم أجب في الحقيقة، حذراً من احتمال ان يكون واحداً من الجواسيس أو «الرصاد» الذين تزرعهم داعش في السجون بحثاً عن «حالات مشبوهة» بالنسبة إليها. وتذكرت الحكايات المتناقلة عن «أولاد الحرام» وعن ضحاياهم ممن دخلوا سجون التنظيم بمخالفات بسيطة وخرجوا منها إلى ساحات الإعدام كمرتدين وعملاء للتحالف أو للجيش الحر أو «للأكراد» أو للنظام.

بصوت عال غير مبرر في جو الصمت والترقب هذا، اشتكى شيخ قارب السبعين من خطأ ارتكبه الدواعش باعتقاله: «ما كمشوني وكت صلاة. أي صلاة الصبح والشمس عالية؟!..». حفز الصوت العالي بعضنا على الرد: «مو عشان الصلاة يا حجي». لكنه لم يسمع وعاد إلى حيرته صامتاً إلى حين أذن الظهر ووقفنا لأداء صلاة السنّة القبلية فاقترب من الباب ونادى الحارس: «يا ابن الحلال، ترى الشمس كانت طالعة ومو وكت صلاة». عنّفه الحارس: «ارجع غاد.. أطرش ويريد يعرف ليش كمشناه!». تدخل السجناء لتهدئة الشيخ وإلحاقه بالصلاة، دون أن يتمكن أحد من أن يوضح له أن التهمة التي ساقته إلى السجن أنه كان يتمشى أمام بيته في صبيخان صباح اليوم بكلابية طويلة تخالف قانون «الإزار»، رغم الشرح بالإشارات إلى ثوب الشيخ الذي من المتوقع أن يمضي أياماً في السجن ربما طالت في حال فشله في حفظ نواقض الاسلام من المطويات، وهو الاحتمال الأرجح، إن لم تتدخل واسطة تخرجه. بعد الجدل الذي أثاره الشيخ مع السجان تباهى متهم الحلاقة بأنه يعرف السبب الذي جاء بالشيخ متهم الإزار إلى الميادين وليس إلى حسبة العشارة الأقرب، وراق لي للحظات أن أعرف شيئاً من الترهات «البيروقراطية» الوليدة في عالم داعش فقال: «جعد يسوولها صيانة حسبة العشارة. وشرجي صبيخان ما بي سجن حسبة لولاية الخير، أي لولاية الفرات». «حسبة العشارة أحسن»؛ أضاف متهم الحلاقة بجملة عززت الشكوك الصامتة بأنه «الراصد» الخبيث المزروع بيننا. لم يقع أحد في الطعم الذي ألقاه سوى مراهق صغير بدا مسروراً وهو يخبرنا أنه سينقل اليوم إلى سجن الأحداث، حيث الوجبات الثلاث والتكييف والحمامات والنظافة. أكد متهم الحلاقة ما قاله المراهق عن سجن «الخمس نجوم» حسب قوله، وأن كبير الشرعيين فيه «ألطف وأطيب شرعي مرّ على ولاية الخير».

لم أجد الشجاعة الكافية للهمس في أذن المراهق أن سجنه الجديد ما هو إلا محطة سيخرج منها مجنداً في صفوف التنظيم وعازماً على تفجير نفسه دفاعاً عنه.