- الرئيسية
- الأرشيف
- مرأة
في حيِّ القصور بدير الزور... كيف أمضت ثلاث عوائـل يومــاً مع حرس الأســـد الجمهوري
ديرالزور | عدسة كرم | خاص عين المدينة
أواخر الشهر التاسع من العام المنصرم، وخلال الهجوم الذي شنته قوات الحرس الجمهوري على حي القصور، كنا مجتمعين في بيتي، نحن سكان البيوت الثلاثة المتجاورة، ننصت لأصوات الاشتباكات والقصف والقذائف القريبة منا والبعيدة. ومع أخبار المجازر التي ارتكبتها قوات الأسد في كلٍ من حيي الجورة والقصور، كان الرعب هو الشعور الطاغي بيننا، نحن السيدات الثلاث اللاتي بقينَ دون رجالهنّ، مع أسرنا الصغيرة الخائفة. وفي ساعةٍ من الصباح دُفع باب المنزل بقوةٍ، ليقتحم ـ وخلال لحظاتٍ ـ عددٌ كبيرٌ من جنود الأسد منزلنا الصغير، وتوزعوا يفتشون في أنحائه.
كنا متجمّعين في الصالة نواجه البنادق المصوّبة نحونا بأعينٍ ترتجف خوفاً. سأل أكبر الضباط: مين صاحب البيت؟... أنا.... أجبت الضابط ذا الشعر الأشيب. نظر إلى صحن الزيت المشتعل بمنديلٍ، الذي كان يضيء الصالة المظلمة، وهذه طريقة أفرزها الغياب الطويل للكهرباء، ونفاد الشمع. وبشيءٍ من الارتياح، وبعد أن اطمأن أن لا خطر في بيتنا، سأل: من إيمتى الكهربا مقطوعة؟ أجبت: من أسبوعين.
من المطبخ حمل جنديٌ "الطنجرة" ومرّ بها من الصالة. ابتسم الضابط وعاد ليسألني: شو طابخين لنا اليوم؟.... أجبت: مقلوبة باذنجان.. صحة وهنا. أضفتُ بلطفٍ مصطنع. خرج معظم الجنود لمتابعة التفتيش في بقية الطوابق، وجلس الضابط الكبير مع ضابطين آخرين أقلّ رتبةً يحدقون بنا، نحن المتجمّعين في زاوية الصالة. قال الضابط: شو ما في قهوة؟ أجبت: أهلاً وسهلاً... دقيقة بس. وذهبت مع جارتيَّ وأطفالنا إلى المطبخ. كان منظرنا مضحكاً... ثلاثة عشر فرداً يتحركون ككتلةٍ واحدة... سمعت صوت الضابط: لك شو بكن خايفين... ما راح ناكلكن... بتخافوا منّا وما بتخافوا من كلاب إسرائيل؟! وخلال هذه اللحظات دوّى صوت انفجارٍ كبير، ثم رشقاتٌ كثيفة من الرصاص. سمعنا صوت الضابط يصرخ عبر جهاز اللاسلكي مستفسراً عما يجري. فجأةً صار خائفاً ومذعوراً مثلنا نحن النسوة والأطفال. وبعد أن خفّت وتيرة الاشتباكات عدتُ الى الصالة. لم يكن الضابط موجوداً، وكانت الصالة خالية إلا من مجندٍ صغيرٍ كان يقف عند الباب خائفاً. بادرني: خالة بدي مي... قدمت له الماء وأحسست بشيءٍ من الشجاعة لأسال: أنت من وين؟ أجاب: من جبلة..... فسألته: ليش واقف هون؟... لم يجبني. كان ينظر إلى الدرج حيث كان الجنود يصعدون. وعلى ما يبدو لقد تمترس القناصة في الطوابق العليا. سمعنا صوت الضابط أمام البيت يقول: الله يرحمهن الرحمن الرحيم... تساءل المجند: شو؟ طمنّا سيدي! أجاب الضابط: لك خمسطعش شهيد راحوا بعبوة..... استفسر المجند: منّا سيدي؟ أجاب الضابط بحدّة: لكان من مين؟!! عم قول الله يرحمهن، وعم قول شهيد يا حمار..... دمدم الجندي هو الآخر: الله يرحمهن الرحمن الرحيم. دخل الضابط إلى البيت. كان غاضباً جداً. يحمل بندقية ويرتدي الخوذة. أمرنا فوراً: معكن ساعة تفضّوا فيها البيت. سألته الجارة: لوين يا سيدي بدنا نروح.... وعلى الفور أطلق عليها الرصاص فأصابها في قدمها، وصاح بوحشيةٍ: كمان كلمة وتصير الرصاصة براسك.. نظر إليّ وأردف بحزم: راجع بعد ساعة... ما بدي شوف حدا.
كانت جارتي تنزف. وعلى عجلٍ ضمّدنا جرحها وأجبرناها على الخروج مع أطفالنا العشرة وبعض حقائب الألبسة...
استطعنا الوصول إلى حي الجورة. أسعفنا الجارة هناك، وذهبتْ بعد ذلك كل عائلة منّا في طريق. تنقلتُ بين بيوتٍ ومدارس نزوحٍ وقرى مختلفة. تركتُ بيتي منذ تسعة أشهر، ولا أعلم ما حلّ به ومتى أرجع إليه.