في بيروت... تحرّش عابر للحدود

Angelica Alzona

تهانينا! تسرّ إدارة منحتنا الدراسية إبلاغك بقبول طلبك لاستكمال دراستك في بلدنا، يرجى منك الحضور إلى بيروت....

كعادتي القديمة قرأتُ _باندهاش طفلة_ أول الخبر ونسيت تفاصيله، بمعالم أثارت حفيظة أبي المتكئ "شبك؟!". أخبرته بنبرة العطش من ظمأ انتظار فَرَج "نظامي"... "فيزا وتذكرة سفر إلى تركيا، قبلوني في المنحة"، "لا تروحي ولا تجي" واستأنف "شو هي المنحة؟"

ضوء أخضر خافت منحني إياه والدي المتردد كعادته، باتت المنح الدراسية باباً للهرب من سوريا بشكل نظامي إلى أقرب بديل جغرافي آمن يخولك ممارسة إنسانيتك. تناولت هاتفي أتصل بسائق (في عمر أبي)، وأحادث أبي عن طلبٍ، استكملته لي صديقتي للتقديم على منحة دراسية في الخارج، لم أستطع إتمامه حينها. كنت أستجمع ما يسترني صيفاً في حقيبة اعتدت تحضيرها استعداداً لنزوحنا الثالث من منزلنا، أنهيت مكالمتي "7 الصبح بتلاقيني عند الموقف".

حتى معبر المصنع بقيتُ أتحسس مدخراتي الأخيرة من عملي قبيل تركه لسداد أجرة السائق، أوراقي.. وحجز وهمي في السفارة السورية، فكلمة "تركيا" وتبعاتها الدبلوماسية غير كافية للإفلات من قبضة المعابر. لم يزدحم المعبر بعد، مازالت وجوه اللبنانيين للمحيا السوري "صافية". تبعت الدور فكان دوري، عاجلني العسكري بعبارة "راجعي الضابط"، مضيت إلى مكتب الأخير باستسلام أتمتم باللاشيء.

لا أذكر حينها أني قلت للضابط "صباح الخير"، نظرتُ إليه كطفلة اقترفت ذنباً، وضعت أوراقي على مكتبه، واعترفت بكل شيء.. موعدي في السفارة التركية والمنحة والفيزا، ونسيت أمر حجزي الوهمي في السفارة السورية. لا داعي للكذب فالسوري في نظر اللبناني "أعور دجال"، فلا ضير في قول الحقيقة!

سجال أمني معتاد انتهى بسؤال "مجوزة؟" بفضول الأنثى تفحصت يديه، إصبع يشغله محبس زواج! "عمرك 29! ليه لهلأ ماتزوجتي؟" خيل إليّ أني في كابوس مع إحدى ثرثارات مدينتي التي تبدو "حربوئة" في اصطياد عريس قُبيل ولوجها سنة الـ 26! خشيت أفعل فعلتها فيلحقني سباب من أطفالي على جريمة العيش في بلد يغتال الحياة. أطبق أخيراً ختمه الأسود "وهي 48 ساعة لإلك!" ابتسامته الشهوانية تعلو فاه، خطفت تذكرتي قبل أن يغير رأيه، هاربة من "بوط "عسكري لبناني الرائحة.

"كيف خلّصتْ هي بسرعة؟" قال أحد الواقفين على الدور الطويل، ليردد السائق السؤال الذي سمعه: "كيف حصلتِ على إذن الدخول بسرعة؟" يُحاول رفع صوته وسط صوت طرق الأختام وأزرار الكيبورد، أجبته بابتسامة اللاشيء "ماعم أسمعك!" كنت في الأحرى " مو جاية عبالي أسمع".

سورية؟

إعلانات طرقية رافقتي من المعبر إلى بيروت كفيلة بكسر الملل، فنصفها "للطرب والكيف" ونصفها الآخر شعارات حزبية ووطنية...إعلان وحيد يظهر بوضوح صامت: "إذا المتحرش ماتوقف...مارح يوقف"، حتى تلك اللحظة ولسذاجتي اعتقدت أن المتحرش لا يعترض سوى من هن من أبناء جنسيته!

يُصادفك مجسم خرساني مشوه كلما اقتربت منه يأخذ شكل دبابتين في واجهته الأمامية، خلته مبنى سكني فعلت الحرب الأهلية فعلها فيه، فكان صرحاً لـ "وزارة الدفاع اللبنانية" في بعبدا، تقبع خلفه السفارة السورية "لجباية الأموال". وقفت عند بوابة الأخيرة صباحاً، ودرك السفارة اللبناني يتفحصني بفضول مناطقي، وربما ذكوري، ويجول -في كل مرة تتسع دائرة جولته- حتى بات على مسافة قريبة تخولني سماعه "سورية؟" بغبائي المناطقي أحببت مؤقتاً ممارسة دور الأغلبية، فأنا الآن أقف في أرض تتبع سفارة بلدي، وهو درك فيها، أومأت بالإيجاب، "مو مبين عليك سورية، السوريين مابيوقفوا عالدور!" ارتديت نظارة شمسية لإنهاء فضوله الصباحي، باغتني بكلمة "دوموزيل!" وأشار إليّ "تفضلي!" مبعداً غيري من أبناء جلدتي عن بداية الصف لأفتتح صف الطلبات، ابتسامة مقتضبة ومضيت.

بدي اشتغل "علي"

آلة حاسبة في رأسي، 425$ ثمن طوابع وأختام جعلت أوراقي أشبه بجريدة مهترئة، ولم العجب؟ رسوم المغادرة ارتفعت تعويضاً لخسارة النظام 19 معبراً، فضلاً عن ثمن تجديد جواز السفر الذي "لايُدخلنا إلى الحمام" حسب مقولة صديقتي الفلسطينية، تجعل العاملين في قطاعاتها يعيشون في بحبوحة، استذكرت جاري الموظف في الجمارك، وصبي الطلبات المتردد إلى منزل الأول يومياً، وقريب صديقتي في المنطقة الحرة، أحسب دخلهم، لكن أكثرها ارتفاعاً هو أن تعمل "علي".

نكتة قديمة اعتاد والدي أن يرويها على مسامعنا منذ أن عدنا إلى سورية، فمن يكون من الطائفة العلوية ويحمل في اسمه "علي" يمكنه العمل في "المطرح يلي بيحبه!"، لذا قررت حينها أن أشتغل علي. اطمأننت للحظة لمجرد استذكار نكتة أبي، سرعان ما تلاشى شعوري. صوتٌ قريبٌ من خلفي بدا معاتباً "ليه طولتي؟" التفتّ فزعاً، ذاك الدرك مجدداً. ضممت أوراقي، فما من درع حاليّ يذود عني، "إزا باقية ببيروت بساعدك، أديه باقية عنا؟". صوت سائقي يسأل من بعيد "خلصتي؟" فكان خلاصي.

الأشرفية ترحب بكم

تسللت وسط جموع المنتظرين ودخان سجائرهم أمام السفارة التركية. سجلت اسمي، رمقني درك آخر، وكأن الدرك تكالبت عليي في يوم واحد! سألني فيما إذا جلبت الأوراق المطلوبة، تفحصني بوقاحة شهوانية أثارت فضول المصطفين، "صحفية لأي تلفزيون؟ لا عتب على لبناني يرى الإعلام مجرد شاشة وراقصات عليهن أشباه الملابس "حتنامي ببيروت أو راجعة عالـ"شيم".

أضفت إلى مخزوني تصنيفاً آخر أردت أن أطلقه للحظة في وجهه "مقرف جداً"، تذكرت حينها أن النظام أجرى تغييراً ألزم فيه الطلبة بإدراج "غير موافق جداً" في أبحاثهم العلمية بدلاً من "معارض جداً"، فلا معارض في "حضرة سوريا الأسد"، فقررت الصمت.

يطل من وراء الدرك وجه ذكوري أعرفه ويعرفني، زميلي مقبول هو الآخر في المنحة، اكتفيت بسؤله "بتنطرني لأخلص؟" ناظرة إلى الدرك أشرح المقصد من طلبي، بخَجَل "ناطرك".

"عريسك لبناني"

عقب يومين من سفري الأول إلى بيروت، حان الموعد الثاني والأخير، كنت أنانية في وداع والدي الباكيين، قلت في نفسي "لازم أبكي.. لزوم الموقف"، استحضرت معبر المصنع الذي مازال يثير لدي قشعريرة، وذاك الضابط، والذي من سوء طالعي كانت ليلة سفري نوبته، هل سيذكرني؟ جئته منذ يومين فقط! أجرى فحصه النظري "طبقي محوري" المعتاد. "وفيزا تركية؟!" ممازحاً "كيف حصلت عليها؟ بدنا ننطرك لنتأكد من الفيزا، شو أطلب لك تشربي؟" ضابط لبناني ومعبر المصنع وماذا أشرب في جملة واحدة! علّه كرم الضيافة.

صمتٌ قطعته ضوضاء، اقتحم مكتب الضابط فجأة رجل لبناني برفقة زوجته وطفليه، "سيدي أنا لبناني وهدول ولادي ومرتي، ليه وقفتوني؟"، يُجيبه بنبرة العسكر "مرتك سورية اطلع لبرا"، عاد الضابط يبرر تنمّره العسكري، يسألني بنبرة ناعمة "عندك حبيب؟ خطيب؟ شو طالعة تعملي بتركيا؟، "ضابط واحد وسوريتان، إحداهما طُردت والأخرى تنتظر ضيافة! عندك فيس أو أنستا؟" واسم حسابك نفس الاسم الموجود عالفيزا؟ لو كذبت عليه ما عساه يفعل؟"، صوته بالكاد يُسمع "عندي حساب باسم وهمي، بدخل وبعلق وبسب على كيفي.. مشان الوضع، بتعرفي!"، منهياً الاستجواب بجملة "عريسك حيكون لبناني"،

"هاد يلي كان ناقص" لأول مرة أحمد الله على نعمة المونولوج، يمنحني هامش من حرية الحديث عن شخص أو عليه بأريحية ودون رقابة، لم تمنحني إياه أية وسيلة صحفية كنت قد عملت بها في السابق.

بدأت جموع المراجعين تزدحم، سألت "مطولة الفيزا؟" انتفض من حرج مقاطعتي حديثه "يا فلان!" التقطت جواز سفري كمن التقط قرار الإفراج، يأمر عسكرياً بالختم لسائقي بسرعة، يُحادثني من بعيد "كل شي تميم؟" بطريقة أثارت انتباه من حوله، "تمام" ومضيت.

تحرش عابر للقارات

أخيراً.. شعرت بالقليل من الأمان حين وصلت إلى مطار بيروت، أشخاص يُعانق بعضهم بعضاً، يبكون مطولاً، والكثير من السيلفي. شعرت بالغيرة، باشرت الاتصال بوالدي، لكن شبكة إنترنت المطار لاتعمل!

"في شبكة بس محجوبة" قال لي عامل تخلل صفوف المسافرين، استسلمت إلى نفسي أحادث والدي وأعتذر عن جفاء وداعي، أبكي كأول بكاء لطفل مولود، أتململ من امرأة مسنة أمامي مستسلمة، يلزمها تسديد ما يُعادل 300$. أحد ما يلتصق بي، يهمس: هلأ بعطيك الباسورد. كان يمكنه إبلاغي دون الالتصاق.. دون همس.. "مالي بحاجته".

سويعات قليلة تفصلني عن تركيا.. فزعت.. تيقنت أني استسلمت للنوم، هبوط الطائرة أفزعني، تفقدت أغراضي كـ "فوبيا" لازمتني بعيد سرقة هاتفي.. أي حظ هذا؟!

إلى المطار دخلت مع جموع من تزامن سفرهم معي، "صرلي زمان ما شفت شباب" أضحك، الاحتياط في سوريا سحب البلاد والشباب من العِباد.

بعيد يومين من الوصول، حان وقت سوشيال ميديا، آخر رسائل الماسنجر تُشير إلى شخص باسم رجل "سني" من لبنان، جعل جيفارا صورة بروفايله وفحوى صفحته علمانية بامتياز، أي تناقض هذا؟ عساه ضابط المعبر؟ أم درك السفارة؟ أم عامل المطار؟ رسالة دون ردّ، عاود الاتصال مرتين ثم انتهى بباقة ورد وعبارات حب مبتذلة يُعرّف بها عن نفسه " أنا فلان... بالمعبر.. مابقدر أحكي كتير!"