في الحاجة إلى قضاءٍ مدنيٍّ للمناطق المحرّرة الجيش الحرّ والقوى المتشدّدة وثقافة السكان أبرز عقبات مشروع القضاء البديل

ابتداءً من حزيران عام 2012، انهارت السلطة القضائية في ريف دير الزور، بُعيد تحريره. إذ توقّف عمل المحاكم في مدن (التبني؛ هجين؛ البصيرة؛ الصوَر) ثم توقف في مدينتي البوكمال والميادين بعد تحريرهما كذلك. في حين استمرّت محكمة مدينة العشارة فقط بالعمل جزئياً، الذي اقتصر على توثيق عقود الزواج والطلاق ووكالات الكاتب بالعدل، إلى أن سيطر تنظيم "الدولة الإسلامية" على كامل المحافظة قبل أشهرٍ ثلاثةٍ من اليوم.

خلال عامين من الفراغ، لم تُسجّل أية محاولةٍ جادّةٍ لبناء جسمٍ قضائيٍّ بديلٍ في دير الزور، رغم حماسة بعض القضاة وبعض الوجهاء المحليين وكثيرٍ من النشطاء لهذه الفكرة، إذ أبدى أكثر من عشرة قضاةٍ في ريف المحافظة استعدادهم للعمل على بناء جسمٍ قضائيّ، إلا أن هذا الاستعداد واجه عقباتٍ عدّة، يمكن تلخيص أبرزها بما يلي:
1- غياب الرغبة والاهتمام لدى قادة الفصائل والقوى المسلحة من الجيش الحرّ، والمسيطرة آنذاك، للمساعدة في بناء جسمٍ قضائيٍّ فاعل. وذلك لأسبابٍ مختلفة، منها اعتبار القضاة تابعين للنظام، وفق نظرة بعض القادة العسكريين، وخشية البعض الآخر من وقوعهم هم أنفسهم تحت سلطة القضاء، مما يوقف تعدياتهم الكثيرة على الموارد والممتلكات العامة، أو يحيلهم للمحاكمة كمتهمين في قضايا سرقةٍ وانتهاكاتٍ مؤكدة. يضاف إلى ذلك الافتقاد إلى قيادةٍ عسكريةٍ واحدةٍ في المحافظة، ذات سلطةٍ على جميع القوى المسلحة، تمكن مخاطبتها وإقناعها بأهمية القضاء وخطورة غيابه على مشروع الثورة ككلّ.
2- إن الطبيعة العشائرية لمجتمع ريف دير الزور لا تتلاءم بالأصل مع مفاهيم القضاء الحديث. فالقضاء واحدٌ من معطيات التمدن. ولا تلائم هذه الطبيعة كذلك فكرة العقد الاجتماعيّ القائم على مفاهيم المواطنة وانتماء الفرد وولائه للدولة.
3- معارضة الحـــركات والتيارات الدينية المتشدّدة، الآخذة آنذاك بالتمدد والسيطرة، لأيّ تشكيلٍ قضائيٍّ خارج سلطتها، بذرائع مختلفة. مثل اتهام القضاء بالحكم انطلاقاً من قوانين وضعيةً تتنافى مع أحكام الشريعة، التي أرادوا تطبيقها وفق رؤية هذه التيارات وعلى طريقتها الخاصة.
4- عدم اهتمام المعارضة السياسية، ممثلة بالمجلس الوطنيّ ثم الائتلاف، بالشأن القضائيّ. وهي الجهة المنوط بها رعاية هذا المشروع وتمويله والحرص على نجاحه، لأنه أحد العناصر البارزة للمرحلة الانتقالية، وإحدى علامــــات السيـــــادة والشـــــرعية والحضور الشعبيّ الذي تفتقر هذه المعارضة إليه. وفي السياق ذاته لم تبذل وزارة العدل، بعد تشكيل الحكومة المؤقتة، أيّ جهدٍ يذكر سوى تقديم بعض المساعدات المالية لبعض القضاة المنشقين، وإقامة بعض الأنشطة التثقيفية في الخارج، من محاضراتٍ وندواتٍ وورشات تدريب، وغير ذلك من الأعمال التي يمكن لأيّة جمعيةٍ خيريةٍ أو منظمة مجتمعٍ مدنيٍّ أن تقوم بها.
5- قلة الثقافة القانونية لدى معظم السكان، أو انعدامها، وغياب وضوح مفهوم القضاء ككل. بسبب علاقة القضاء السابقة بالسلطة المستبدة، واعتباره ذراعاً من أذرعها القمعية، مما ولد تقاليد راسخةً تقوم على فكرة التملّص من القانون وخداعه بأي شكل.

كيـــف تُبــنى مؤســـسةٌ قضـــائيــةٌ في أرضٍ محرّرة؟

تأتي الثقة بالقانون، وقبل كل شيء، من الثقة بالسـلطة السائدة. فإذا كانت الســلطة منضبطةً، تخـدم المواطـن وتحـميه، ويراهـا كــذلك، سيكون هذا المواطــــن واثقاً بالقــضاء ومستسلماً لسلطته وأحكامه. ولكي نفكر بالقضاء البديل في المناطق المحرّرة، أو المناطق الخاضعة تحديداً لسيطرة الجيش الحرّ، لا بدّ أولاً أن نفكّر بطبيعة السلطة التي يفرضها هذا الجيش. ويمكن هنا وضع عددٍ من الاشتراطات الأولية بخصوص البيئة العامة، نحدّدها بما يلي:
1- أن تكون السلطة التنفيذية موحّدةً في إطارٍ هيكليٍّ واضح الرأس والقيادة، وأن تكون ذات طابعٍ مدنيٍّ بأجهزةٍ واضحة المعالم محدّدة الوظائـف، وأن تنــال هذه السلطة ثقة السكان وتحظى باحترامهم، وأن تكــــون قادرةً على حماية المؤسسة القضائية وتنفيذ إجراءاتها وأحكامها.
2- أن يكــون القــضاء الناشئ مستقلاً لا يتــبع أو يخضــع أو يتأثر بالســلطة التنــفيذية أو بأيّ اعتبـــار آخر سوى مــبدئه العام بتـــحقيق العدالة.
3- بغياب السلطة التشريعية، واستحالة بناء بديلٍ لها في الظروف الراهنة، تجب مواصلة العمل وفق منظومة القوانين السابقة فيما خلا بعض الحالات الخاصّة التي فرضها الواقع المستجد، مثل التهرّب من دفع فواتير الكهرباء والماء، والتعدّي على المناطق الحراجية لتأمين حطب التدفئة، أو البناء من دون رخصة، وغيرها من القضايا المصنّفة في خانة الجنح.
4- بناء هيكلٍ قضائيٍّ وفق ما تتيحه الظروف. إذ يمكن التخلي عن قاضي التحقيق وقاضي الإحالة، وحصر كافة التحقيقات بالنيابة العامة التي تأمر بانتهاء التحقيق إما بإخلاء السبيل أو بإحالة المتهم إلى المحكمة المختصّة بحسب نوع التهمة أو الجرم. فان كان مخالفةً أو جنحةً يُحال المتهم إلى المحكمة الابتدائية، وهي بديلٌ مستحدثٌ ينتج عن دمج محاكم صلح الجزاء بمحاكم بداية الجزاء. وإن كانت التهمة جنائية الوصف يُحال المتهم إلى محكمة الجنايات التي يمكن أن تكون مرجعاً استئنافياً أيضاً للمحكمة الابتدائية. كما يمكن دمج محكمتي الصلح المدنيّ والبداية المدنية في محكمةٍ واحدةٍ هي المحكمة الابتدائية المدنية. ويمكن أيضاً أن تكون محكمة الجنايات مرجعاً استئنافياً لها. وفي هذه الحالة يجب أن تكون محكمة الجنايات مركزيةً على مستوى الإقليم أو المحافظة، فيما تكون المحاكم الأخرى موزّعةً في المدن والبلدات. وكذلك إحداث محاكم خاصّةٍ بالأحوال الشخصية (المحاكم الشرعية) تكون محكمة الجنايات مرجعها الاستئنافيّ أيضاً. وأخيراً، تجب إعادة تشغيل مكاتب (الكاتب بالعدل) في مقارّ المحاكم الابتدائية.