في "مزاد" الشميطيّة: لا يسلَم أفقر الباعة من زكاة "داعش"

طرقٌ عديدةٌ يعرض بها الباعة بضائعهم في "المزاد" أو السوق على أطراف بلدة الشميطية غرب دير الزور: خيمٌ، عرباتٌ متحرّكةٌ أو ثابتة، هياكل مختلطةٌ بين المعدن والبيتون والخشب، تؤدّي وظيفة احتلال موقعٍ والحفاظ على البضاعة وعرضها في آنٍ واحد.

في هذا السوق المغبرّ يمكن الحصول على أيّ شيءٍ تقريباً؛ أدواتٍ كهربائيةٍ، خضار، غذائيات، ألبسةٍ مستعملةٍ وجديدة، قطع غيار سيارات، أسمدةٍ وأدويةٍ زراعية، مواشٍ، أعلاف. ومثل كلّ مكانٍ في المناطق الخاضعة لسيطرة "داعش" يبرز الحضور الطاغي للتنظيم في تقيّد الرجال والنساء بالزيّ والهيئة وقواعد السلوك التي فرضها. وتضفي الكلمات والعبارات العربية الفصحى التي تُسمع من المهاجرين، وغيرهم من "الدواعش" السوريين، أجواء مفتعلةً تذكّر بالمسلسلات التلفزيونية التاريخية. كما تحيل إلى الدراما أيضاً طريقة التشهير بالمتهمين، مثل صلبهم على أعمدة الكهرباء، أو وضعهم في أقفاصٍ والتجوّل بهم بالسيارات، إضافةً إلى مشاهد الجثث التي تقطع رؤوسها في مكانٍ آخر ثم تُعلّق في السوق ليومٍ أو يومين.

نشأ السوق صيف عام 2012، بعد تعذّر الوصول إلى مدينة دير الزور بسبب الحرب، وشهد ازدهاراً لافتاً في عهد سيطرة الجيش الحرّ. ومع احتلال "داعش" المحافظة أدّى احتكار التنظيم واردات آبار النفط إلى خروج كتلةٍ ماليةٍ ضخمةٍ من دورة اقتصاد المحافظة. كما كان منع "داعش" عشرات آلاف الموظفين الحكوميين من استلام رواتبهم الشهرية، بمنعهم من دخول الأجزاء الواقعة تحت سيطرة النظام في مدينة دير الزور، سبباً إضافياً في انهيار القدرة الشرائية للسكان، لتتراجع الحركة في سوق الشميطية كما في باقي أسواق دير الزور. ثم لتكمل غارات الطائرات الروسية، التي استهدفت السوق وجواره مرّاتٍ عدةً، فتؤدّي إلى تراجعٍ إضافيّ لحركة البيع والشراء. لكن، ورغم ذلك، ما زال "مزاد الشميطية" هو السوق الأهمّ لعشرات القرى والبلدات في ريف دير الزور الغربيّ.

ليست التجارة هي المهنة الأصلية لمعظم الباعة في هذا السوق. فخليل، الذي يسمّن الخراف ثم يبيعها، كان معلم مدرسة. وعلي، بائع البذار والأدوية، كان مهندساً زراعياً متنوّع الدخل بين الوظيفة الحكومية وزراعة الأرض. لكنه اليوم خسر الوظيفة وتوقف عن الزراعة بسبب التكاليف الباهظة، واضطرّ إلى جرّ عربةٍ وراء دراجته النارية في طريق ذهابه وعودته إلى السوق. فيما يتذكّر الحمّال المتذمّر صالح مهنته السابقة في صيانة الأجهزة الكهربائية، إذ لم يعد أحدٌ يهتمّ بإصلاح الغسالة أو البرّاد مع الانقطاع الدائم للكهرباء. ويبدو الباعة الجوّالون من الأطفال الأقلّ تذمراً من الجميع، فالركض وراء بعضهم طوال النهار، والفرجة على سيارات "داعش" وعناصرها، وبيع بعض قطع البسكويت أو المحارم أو البطاريات مقابل يومية (100-200) ليرةٍ ليس عملاً مزعجاً لهم على أيّ حال.

تقول بائعة ملابس مستعملةٍ عجوزٌ، من وراء غطاء الوجه الذي لم تعتد عليه بعد، إن حركة البيع ضعيفةٌ جداً، مع ارتفاع ثمن البضاعة. فـ"الباكية بخمسة وعشرين ألف، ويا يطلع منها عشرين سترة تنباع يا ما يطلع". تصمت المرأة وهي تتابع رجلاً في الخمسينات من عمره، بهيئة المنتمين إلى "داعش"، كان يقترب من بسطتها حاملاً دفتراً كبيراً وبندقية، قبل أن ينعطف باتجاهٍ آخر. ودون أن تصرّح بالمقصود من دعائها "الله عالظالم" تعود إلى مجادلة الزبون والشكوى من قلّة العائد من هذا "التعب ووجع الراس"، متذكّرةً، حسبما تشرح لنا بما يشبه الهمس، مبلغ "عشرين ألف ليرة دفعتها زكاة لابن هالحرام اللي مر توّا من هين، أبو الحسن الشامي". وهو الاسم الجديد الذي اتخذه بائع أسطوانات غازٍ من قرية الخرَيْطة المجاورة بعد انضمامه إلى داعش قبل سبعة أشهر، ترقى خلالها بسرعةٍ من عنصرٍ على الحواجز إلى جابي الزكاة الأوّل في قرى "الشامية" من الريف الغربيّ لدير الزور، بعد خضوعه لدورة إعدادٍ سريعة.

تُفرض الزكاة على الباعة حسب التقدير المزاجيّ لأبو الحسن. إذ لا توجد لدى الكثيرين منهم دفاتر حساباتٍ أو فواتير يدافعون بها عن أنفسهم حين يقرّر، بعد نظرةٍ سريعةٍ على المعروضات: "راس مالك مليون ونص... عليك سبعة وثلاثين ألف وخمسمية ليرة زكاة. هذا الوصل، تروح تدفعها بمعدان".