فقط في "دولة" داعش؛ يصبح عامل محطة المياه والياً، وصفّ الضابط المنشقّ مهندساً، والممرّض مدير صحّة

من منصب أميرٍ في جبهة النصرة في دير الزور، انتقل عامر الرفدان، وهو عاملٌ مؤقتٌ في مؤسّسة المياه قبل الثورة، إلى وظيفة والٍ لولاية الخير، وهو اسم دير الزور الجديد بعد إعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام في نيسان 2013.

ومنذ ذلك التاريخ وحتى بسط داعش لسيطرتها على كامل المحافظة كانت الولاية مجرّد تعبيرٍ مجازيٍّ يدلّ على مشروعٍ يُخطط له، وكان الرفدان مجرّد قائدٍ فرعيٍّ لجماعةٍ عسكريةٍ طموحةٍ تسعى إلى تحقيق هذا المشروع. وخلال هذه المدّة اقتصرت اهتمامات "الوالي" و"الولاية" على الشأن العسكريّ وما يلزمه من دعايةٍ وتشريعٍ دينيٍّ وتمويلٍ وجد قناته الرئيسية في السيطرة على بعض المواقع والمنشآت الاقتصادية الهامة، دون أن تظهر أية اهتماماتٍ أخرى في حقول الخدمات والصحّة والتعليم والزراعة وغير ذلك من الشؤون الطبيعية لأية "دولةٍ" قيد التأسيس. ولاحقاً، بعد تحقق شرطَي الأرض والسكان اللازمين لأن تكون ولاية الخير ولايةً كاملة الأركان، أظهرت داعش اهتماماتٍ غير متناسقةٍ بتلك الشؤون.

وتكشف سيرة تشكّل كلٍّ من أجهزتها المدنية على أرض الواقع، خلال الأشهر التسعة الفائتة من سيطرتها على دير الزور، جهلاً فاضحاً لدى مسؤولي التنظيم بشؤون الإدارة والتخطيط. وتكشف كذلك عجز داعش عن استقطاب أصحاب الكفاءة العلمية والخبرة الفنية ليكونوا من أعضائها، رغم الحاجة المادية الماسّة لدى آلاف المهندسين والأطباء وخريجي كليات الإدارة والاقتصاد من أبناء دير الزور، ممن لم يغادروا الأراضي السورية ويقيمون في مناطق مختلفةٍ منها. ويمكن القول إن ما حققته داعش في هذا الخصوص هو استقطاباتٌ جزئيةٌ على شكل تعاقداتٍ مع قلةٍ من أصحاب الكفاءة العلمية والمهنية، دون أن تنجح في إقناعهم بأن يكونوا جزءاً عضوياً من بنيتها. ولن يحقق هذا التعاقد، بطبيعة الحال، إلا فوائد نقطيةً لداعش، وذلك لأسبابٍ عدّةٍ منها سلم أولويات التنظيم، والذي يتفوّق فيه الاعتبار الأمنيّ فوق أيّ اعتبارٍ، فلا يسمح أن يتبوّأ المتعاقدون مناصب أو يتولوا مهماتٍ تخوّلهم إصدار قراراتٍ أو المشاركة في التخطيط المركزيّ –إن وجد- سواءً على مستوى الولاية أو على مستويات "القواطع" المؤلفة لها. لتذهب هذه الأدوار إلى المبايعين فقط، وفق قاعدة تعيينٍ لا تراعي المعايير المهنية المعروفة إلا بأدنى الدرجات، دون أن تسلم من حالات اختراقٍ كثيرة وغريبة، كأن يترأس خريج معهدٍ موسيقيٍّ، وبائع ألبسةٍ نسائيةٍ في الوقت ذاته، جهاز التعليم قيد التشكل، ويشارك في التخطيط للعملية التعليمية على مستوى الولاية/ المحافظة. ويمكن أيضاً لممرّضٍ غير ماهرٍ أن يترأس جهاز داعش الصحيّ –قيد التشكل- في حيزٍ جغرافيٍّ واسعٍ يتألف من عشرات القرى والبلدات، وقد يأتي شخصٌ ما -صفّ ضابطٍ منشقٌّ ثم مبايعٌ لداعش- من خارج الحقل المهنيّ كله ليترأس قطاعاً حيوياً مثل مياه الشرب في منطقةٍ شاسعة. وأمثلة تعيينات داعش العشوائية كثيرة.

وفي هذا الشأن تبدو التقارير الصحفية عن علماء ومهندسين وحملة شهادات دكتوراه هاجروا إلى دولة داعش، وسخّروا إمكاناتهم العلمية في آلة بنائها، متسرّعةً ومبالغاً فيها إلى حدٍّ كبير. ففي دير الزور على الأقلّ لا يكشف احتكاك هؤلاء الخبراء المزعومون مع نظرائهم السوريين عن أية مهاراتٍ خاصّةٍ أو عاديةٍ حتى. وفي مرّاتٍ كثيرةٍ لا تبدو لهم أية علاقةٍ باختصاصاتهم المفترضة؛ فيفشل المهاجر الفرنسيّ –من أصول عربيةٍ قريبةٍ- الذي تقدّمه داعش كعالم صيدلة، في قراءة التركيبة العلمية لعلبة دواءٍ قراءةً تنبئ عن أية خبرةٍ سابقة، وتتسبّب حماقاتٌ مهنيةٌ لـ"خبراء" نفطٍ خليجيين في إيقاف عمل بعض الآبار لأسابيع عدّة، فيما يفشل مدير مدرسةٍ مهاجرٌ –حسب تقديمه لنفسه- في إبداء أية ملاحظةٍ نافعةٍ لتوزيع الحصص الدرسية، أثناء نقاشه مع معلمين سوريين.

ويمكن الحديث عن الكثير من الأمثلة المشابهة التي تكشف عن ندرة الكفاءات الحقيقية في صفوف المهاجرين إلى داعش، مع وجود أعدادٍ من الطلبة الجامعيين بين المتطوّعين العرب. في حين تقلّ نسبة طلبة الجامعة السوريين، إلى حدٍّ كبيرٍ، بين مبايعي التنظيم، لصالح متعلمي ما قبل الثانوية وسواهم من أشباه الأميين.