عمر سندة
القائد الأسطورة

في الرابع عشر من آذار عام 2016 ودّعت حلب الشهيد عمر سندة، أحد أبرز قادة الجيش الحرّ داخل المدينة، ليرحل عن الدنيا والثورة واحدٌ من أوفى وأنبل رجالاتها؛ فمن هو؟ وما البصمة التي تميّز بها عن غيره؟

الشهيد في سطور
عمر سندة (أبو إسماعيل) ابن حيّ الكلاسة الشهير بشهامة أبنائه وعراقة عائلاته. ولد قبل 29 عاماً لعائلةٍ معروفةٍ بالعلم. دَرَس في المدرسة الشرعية الشعبانية وتخرّج فيها، ثمّ حصل على إجازةٍ في الشريعة من جامعة دمشق. تنقّل في جوامع حلب بين إمامٍ وخطيب، كما عمل في التجارة والصناعة.

خطى الثورة الأولى
دخل عمر على خطّ الثورة، وانخرط فيها بشكلٍ مباشرٍ للمرّة الأولى، في جنازة مفتي حلب د. إبراهيم سلقيني، الذي تحوّل تشييع جثمانه من الجامع الأمويّ إلى أشهر مظاهرةٍ عرفتها المدينة أواخر عام 2011. هاجمَ عمر مع أحد أولاد عمومته ضابطاً للنظام أمام المقبرة وأشبعاه ضرباً، رداً على اعتدائه وعناصره على المشيّعين. اعتقل إثرها لعدّة أيام، ثم أُفرج عنه ليبدأ مرحلةً جديدةً من الإعداد والتجهيز.

ومع دخول الثورة في حلب فصلاً جديداً، باقتحام لواء التوحيد لما يقرب من نصف أحياء المدينة، أسّس عمر كتيبة أسود الإسلام، التي شُكلت غالبيّتها من عائلة (آل سندة) وأبناء حيّ الكلاسة، وكانت لهم اليد الطّولى في منع وقوع أيّ اعتداءٍ على الأملاك الخاصّة أو العامّة، خلاف الأحياء الأخرى التي دخلها غير أبنائها.

قائدٌ بالفطرة
تمتّع أبو إسماعيل بصفاتٍ قياديةٍ و «كاريزما» جذابة، جمع فيها بين الحزم واللين. ومن هذه الصفات تقدّمه صفوفَ مقاتليه، ومشاركته لهم أعمال الحفر وبناء المتاريس وغيرها، أما في الأوقات العادية فتراه بينهم يجالسهم ويمازحهم، وبالكاد يمكن تمييزه عنهم! ورغم رقّة قلبه الشديدة، والابتسامة المصاحبة له معظم أوقاته، إلا أنّه قائدٌ شرسٌ لا يعرف الصّعاب ولا يهاب خوضَها.

ومن الناحية العسكرية أظهر عمر خبرةً فريدة، بحُسن إعداده وتخطيطه الإستراتيجيّ بعيدِ المدى. وكان أحد الذين تستعين بهم معظم الفصائل لخبرته وذكائه. حتى أنّ الهجوم العنيف الذي تعرّضت له الأحياء المحرّرة من مدينة حلب مؤخراً كان قد تنبّأ له وأعدّ له جيداً قبل عامين!

لم يتمكن النظام من إحراز أيّ تقدّمٍ على جبهات كتيبته، بل تكبّد خسائر كبيرة، أشهرُها في فرع المرور والراموسة. كما أردت العديد من قنّاصة القصر البلدي! ومن ناحيةٍ أخرى اشتهرت الكتيبة بتصنيع السلاح المحلّيّ وتذخير نفسها بنفسها، معتمداً على مشاريعَ تجاريّةٍ خاصّةٍ لتمويل مقاتليه، وزراعة الخضار وتربية بعض أنواع الحيوانات بهدف تحقيق اكتفاءٍ ذاتيٍّ ولو بالحدّ الأدنى.

القويّ الأمين
تقع الجبهة التي ترابط عليها الكتيبة في مركز المدينة قرب سوق الهال، وهي منطقةٌ تجاريةٌ فيها عشرات المحال والمعامل التي تحوي بضائع تقدّر قيمتها بعشرات الملايين، وكنتُ شاهداً على تلك البضائع التي لم يحرَّك ساكنٌ فيها! وقد عَرَض عليه أحد تجّار الحرب مبالغ طائلةً مقابل تسليم المنطقة، لما فيها من بضائع، إلا أنه رفض بالطبع. ومن أشهر القصص التي عُرفت عنه، وكنت شاهداً عليها أيضاً، قصة عنصرٍ وَبَّخَهُ عمر وتوعّد بمحاسبته حين علم بأنه استخدم (بخة واحدة) من زجاجة عطرٍ في منزلٍ شبه مهدّمٍ على نقطة رباط!

الشهيد في عيون أهله
يقول والده الحاج إسماعيل، في مقابلةٍ أجريناها معه، إنّ قدوم عمر كان فأل خيرٍ عليه، وإنه أسماه تيمّناً بالصحابيّ الجليل عمر بن الخطاب، الفاروق بين الحق والباطل، إذ كان يأمل أن يكون له من اسمه نصيبٌ في التأسّي بأخلاقه والاقتداء بمنهجه في إقامة العدل وّرد الحقوق لأهلها، وهذا ما حصل!

أما أخوه الشيخ محمد فيقول: ترك رحيله فراغاً كبيراً في العائلة التي اعتادت أن تجتمع عند عمر (الابن الأصغر) الذي ما كان يفوّت أيّ مناسبةٍ، خصوصاً الدينيّة منها؛ إذ يجمع عائلته ويقضي معها ساعاتٍ طوالاً، لا يوفّر فيها أيّ لحظةٍ للعب مع صغيرٍ أو ممازحة كبير. ويضيف إن الشهيد الراحل بذل الكثير من ماله الخاصّ، وباع مصاغَ زوجته ليشتري به بندقيتين روسيتين أول الثورة، ورحل ولم يترك لأهله شيئاً سوى محلٍّ لبيع الهواتف المحمولة -يملكه قبل الثورة– سخّره لتمويل الكتيبة!

كثيرون مثل عمر... رحلوا، لكن ذاكرة التاريخ لا تتسع إلا لمن لاحقتهم الأضواء وعدسات الكاميرا ...