صار أبو عبدو عضواً في لجنة "تمكين". وهو برنامجٌ يهدف إلى دعم المناطق المحرّرة بمبالغ كبيرةٍ لإقامة مشاريع خاصّةٍ بالبنى التحتية كالماء والكهرباء والمستوصفات والأفران.. إلخ، أو مشاريع استثماريةٍ، أو توعويةٍ ثقافيةٍ، أو غيرها مما يختاره بأنفسهم سكان كلّ منطقةٍ يوجد فيها البرنامج، وهي مناطق كثيرة.
النقطة الجوهرية التي يهدف إليها البرنامج -بالإضافة إلى المشاريع طبعاً- هي تمكين الناس من اتخاذ القرارات حول طبيعة المشاريع التي يحتاجون إليها وسلّم أولوياتها، وتنفيذ هذه القرارات بطريقةٍ علميةٍ وشفافةٍ وجماعيةٍ، بعيدةٍ عن أيّ مظهرٍ من مظاهر الفساد. وفي كلّ منطقةٍ تدخل في برنامج "تمكين" يتمّ تشكيل لجنةٍ من السكان تدعى لجنة "تمكين"، تتألف من عددٍ من المتطوّعين، وترتبط بمنسّقٍ ميدانيٍّ يختاره البرنامج، ومهمة هذا المنسّق أن يكون صلة الوصل بين اللجنة والبرنامج. وقد اختار البرنامج مؤخراً قرية "د" في محافظة إدلب لتكون من ضمن القرى العديدة التي شملها، وكان أبو عبدو من ضمن الأعضاء الستة في اللجنة. طوال أسبوعين كانت اللجنة تحاول الالتقاء بسكان القرية لشرح فكرة البرنامج والطلب منهم تحديد المشروع الذي يرون أنه يفيدهم، في المسجد الذي اختير كأفضل مكانٍ لإيصال هذه الفكرة وعقد الاجتماع. لكن، في كلّ مرّةٍ كان عدد الحضور قليلاً جداً، حتى أن أحد أعضاء اللجنة اقترح –مازحاً- أن يدعو الناس لاستلام سلةٍ غذائيةٍ فيشرح لهم فكرة البرنامج.
في إحدى المرّات قام أبو عبدو بلصق إعلانٍ عن اجتماعٍ جديدٍ، وذهب إلى حوالي خمسين شخصاً في بيوتهم ليبلغهم شخصياً. استغرق ذلك منه حوالي ثلاث ساعاتٍ أمضاها متنقلاً من منزلٍ إلى آخر تحت أشعة الشمس الحارقة، وعندما حان الموعد لم يحضر سوى ستةٌ من هؤلاء الخمسين، إضافةً إلى عددٍ محدودٍ من المصلين! وبعد يومين تمّ الإعلان عن اجتماعٍ أخيرٍ، وأبلغ الناس بواسطة ميكروفون مسجد القرية أن الموعد بعد صلاة العصر مباشرةً، ففوجئت اللجنة بحضور حوالي ثمانين شخصاً!!
لكن أبو عبدو كان يعرف سرّ حضور هذا العدد الكبير نسبياً!
كانت إحدى المنظمات الخيرية قد وعدت الناس، في صبيحة ذلك اليوم، بأنها ستوزّع 350 وجبة طعامٍ مجانيةً عند العصر، ولذلك جاء هذا العدد لينتظر في المسجد، حيث البرودة والظلّ، لأن مكان التوزيع الذي حدّدته المنظمة كان قريباً جداً منه، بدلاً من الانتظار في الحرّ خارجاً. وفعلاً، تمّ الاجتماع بنجاح!
بعد نهاية الاجتماع بحوالي الساعة جاءت السيارة التي تحمل الوجبات فاندفع الناس محيطين بها، مما جعل إمكانية التوزيع مستحيلة، فاقترح البعض تغيير المكان إلى المدرسة أعلى القرية حيث تدخل السيارة المدرسة التي يكون التوزيع على بابها. انطلقت السيارة مسرعةً يلاحقها الجميع ركضاً، خاصّةً عندما اكتشفوا أن عدد الوجبات 200 فقط، وليس كما وعدتهم المنظّمة، علماً أن عدد الحضور كان قد تجاوز 400 شخصاً، عدا عن الذين كانوا يتفرّجون على هذا المشهد! قفز على ظهر السيارة عددٌ من الشباب من أهل القرية يوزّعون الحصص على الناس وكأنهم يعملون في العمل الخيريّ منذ ولادتهم، علماً أنهم لم يظهروا في أيّ عملٍ تطوّعيٍّ يخدم القرية من قبل!! بعد أن أفرغت السيارة حمولتها وقف الذين لم ينالوا نصيباً منها متحسّرين على وجبةٍ وعدوا أولادهم بها ولم يحصلوا عليها. فمنهم من أحسّ بالمرارة صامتاً ومشى إلى بيته وهو يشعر بالخذلان، ومنهم من راح يشتم المنظمة ويردّد الكلمة الدارجة على لسان معظم السوريين: حرامية! كان مشهد تزاحم الرجال والأطفال والنساء، ومشهد الذين عادوا بخفّي حنينٍ يثيران في نفس أبو عبدو الإحساس بالعار! لقد صدقت مزحة أحد أعضاء اللجنة عن توزيع سلة إغاثةٍ ليحضر الناس الاجتماع. لكن السؤال الذي ما انفكّ أبو عبدو يطرحه: متى يعي الناس مصلحتهم؟ وإلى متى سيبقون يردّدون: "علّمتنا ضربة الجلاد المرصّعة بالمسامير أن سرّ الأمان في هذا الزمان: اللي بياخد أمنا منقلّو عمّنا، وفخّار يكسّر بعضه"؟