طبّاخ الجيش الحرّ

في منزلٍ صغير في الجزء المحرّر من مدينة دير الزور، يطبخ أبو عبد الله (50 عاماً) كلّ يوم، لا لعائلته إنما للكتائب المقاتلة. وفي كل ظهيرةٍ يتجمّع الثوّار على بابه لاستلام وجبة الغداء.

يقول أبو عبد الله: عندما انتشر الجيش الحرّ في المنطقة التي كنت أقطن فيها كنت أشاهد شباباً في مقتبل العمر خرجوا لتحرير البلد.. كنت مسروراً بوجودهم. كانت بجوارنا مجموعةً صغيرةً لا تتجاوز العشرين مقاتلاً. وكانت زوجتي تحضّر لهم الطعام، وأقدّمه لهم في الوجبات الثلاث. وجدت في ذلك رفعاً لمعنوياتهم، إذ يشعرون أن هناك من يقف معهم في ظروفٍ أقلّ ما يقال عنها إنها سيّئة، فمعظم المقاتلين بعيدون عن عائلاتهم وأهلهم.
ويضيف بأنه اضطرّ إلى إخراج عائلته من المدينة، عندما اقتحمت قوات الأسد الحيّ الذي كان يقيم فيه، ولكن مساعدة الثوار والمقاتلين ظلّت تشكل هاجساً له، وتزامن ذلك مع تدفق كتائب الريف إلى المدينة للدفاع عنها؛ فأحسّ بأن الواجب يحتّم عليه الالتزام نحو هؤلاء الشبان، وقرّر العودة مع زوجته لتقديم الطعام للمقاتلين. يقول أبو عبد الله: بدأت بتقديم طعام الغداء بالتناوب يوماً بيوم... كان عدد الذين نطبخ لهم قرابة المئة. وعند مجيء شهر رمضان أصبح الطبخ بشكلٍ يوميّ، وبدأت أعداد المستفيدين من المطبخ بالتزايد. واستمرّ بي الحال على هذه الطريقة إلى الآن، حين صرت أقوم بالطبخ لما يقارب الـ 900 مقاتل.
يبدأ العمل من آخر الليل، حين يجلب الخضروات ولوازم الطبخ. وبعد ذلك تبدأ عمليات التقطيع والتنظيف، ثم يبدأ الطهو منذ ساعات الصباح إلى الظهيرة، وبعد ذلك التوزيع على مندوبي الكتائب. ولا تنتهي عملية التوزيع حتى يبدأ استلام القدور الفارغة ثم تنظيفها، إلى آخر النهار. وبعد قسطٍ قليلٍ من الراحة يبدأ يوم عملٍ جديد. وعند المعارك والاشتباكات الطويلة يغيّر أبو عبد الله برنامج وجباته، فيعدّ "الكبّة" و"السمبوسك"، التي يمكن حملها إلى جبهات القتال.
يأخذ أبو عبد الله نفساً من سيجارته وهو يفكر في أهمّ المصاعب التي تعترض عمله، بعدم التزام بعض المقاتلين بمواعيد استلام الوجبات، إذ يتأخرون أحياناً مما يسبّب له إرباكاً كبيراً. فأواني الطبخ الضخمة يجب أن تكون فارغةً وجاهزةً للتنظيف في وقتٍ محدّد، وبقاء الطعام فيها وقت الظهيرة، أو التأخير في إعادة الأواني، هو المشكلة الكبرى في عمل أبو عبد الله، الذي يضطرّ أحياناً إلى الذهاب إلى مقرّات الكتائب بنفسه لجلب الأواني الفارغة.
يقول أبو علي، وهو مقاتلٌ شابٌّ من إحدى الكتائب التي تستفيد من مطبخ أبو عبد الله: نحن مجموعةٌ من أربعين شخص نقاتل في المدينة، ولا نملك الدعم والوقت الكافيين للانشغال بأمور الطبخ.. عرض علينا أبو عبد الله أن يقدّم لنا وجبة الغداء يومياً، ومنذ ذلك الحين ونحن نأكل من مطبخه طعاماً قد لا يتسنّى لك أن تأكل بلذّته في منزلك.
طباخ2

لا يتلقّى طبّاخ الجيش الحرّ أيّ مالٍ من المقاتلين، رغم أن كتائب كثيرة عرضت عليه مقابلاً ماديّاً لعمله، لكنه يرفض، فهم "يدافعون عن البلد... وعيب أن نأخذ منهم ثمن الطعام"، كما يقول. وقد أنفق من ماله الخاص على مطبخه، حتى اضطرّ إلى قبول المال من بعض الجهات بعد ارتفاع أعداد المقاتلين الذين يطعمهم، وتشغيله لعاملتين تساعدان زوجته، ومع الاستهلاك الكبير لأسطوانات الغاز.
كان أبو عبد الله موظفاً حكومياً. وصار عمله اليومي والوحيد هو تقديم وجبة الغداء للمقاتلين، ولا سيّما الوافدين الجدد إلى المدينة، إذ تأتي كتائب الريف وكذلك الكتائب الفقيرة في رأس سلم أولوياته. وما زال طبّاخ الجيش الحرّ بدير الزور مواظباً على عمله المضني، دون أن يتذمّر أو يأخذ ولو إجازة قصيرة. ويعلل ذلك بالقول: هذا تاريخ المدينة. ونحن نكتبه بأفعالنا الآن.