وأخيراً، عاد شامل المصريّ إلى الميادين، حاضرة "ولاية الخير"، بعد أشهرٍ من إبعادٍ قسريٍّ إلى بادية حمص فرضته أوامر الأمير، عقوبةً على سلسلة شكاوى ضدّه كانت بينها حادثتا قتلٍ تحت التعذيب، إحداهما لمراهقٍ اتهم بـ"الصحوجية" ظلماً، والأخرى لشيخٍ عُثر في تراب منزله على بندقيةٍ مدفونةٍ، ثبت لاحقاً أنها قد وضعت دون علمه. خُفضت رتبة شامل إلى مجرّد جنديٍّ عاديٍّ، لكنه أثبت حضوراً لافتاً خلال أشهر الإبعاد أدّى إلى تقليص المدة. في شارع الجيش والكورنيش والشارع العام، وفي أحياء مدينة الميادين الثلاثة، كانت له أيامٌ لا تنسى. يتذكر مرّةً أوقف فيها، وبمحض الحدس الذي يتفوّق فيه على باقي زملائه الأمنيين، سيارةً لا تثير الاشتباه عثر بداخلها على كواتم صوتٍ. كان يقول لنفسه ولمجموعته: "السلطة حلوة ومحبوبة بنفس البني آدم، فخلّي الحب ده والحلاوة دي في طاعة الله". وهذا ما يقول إنه قد فعله في عشرات المرّات التي قبض فيها على لحى كثيرةٍ ورؤوسٍ أكثر لمطلوبين وأدخلها في أكياس قماشٍ يكاد المعتقل يختنق فيها وهو يتوسّله: "مشان الله يا شيخ.. راح أموت يا شيخ". فيعالجه شامل بضربةٍ تميّز بها بعقب البندقية تشجّ رأس المطلوب داخل الكيس وتصبغ لونه بالأحمر، مستكثراً على المتهم أن يتوسّل بالله: "تعرف ربنا! إنت تعرف ربنا يا مرتدّ يا ابن المرتدّين!". سيسعى شامل خلال زيارته هذه إلى مقابلة أمير الأمنيين، وسيعرض له قضيته من جديدٍ طالباً مساعدته للعودة إلى عمله الذي يحبّ بمداهمة البيوت آخر الليل وإلقاء القبض على المتآمرين وسوقهم صاغرين.
***
قبل خمس سنواتٍ من اليوم، كان أبو ماهر شرطيّ مرورٍ، وهو اليوم رجلٌ آخر يسمّي نفسه ويسمّيه إخوته في "الدولة الإسلامية" أبو الخطاب. خمس سنواتٍ لا تشبه أية سنواتٍ أخرى من عمره الذي قارب الخمسين. كان قد انشقّ عن وظيفته بتحريضٍ من أبناء عمومته وبتأثير الرأي الشائع آنذاك أن بشار الأسد ساقطٌ لا محالة خلال وقتٍ قصير، وبإغراءٍ من قصص الغنائم التي يسيل لها اللعاب إثر غزواتٍ سهلةٍ على أيّ شيءٍ من ممتلكات القطاع العام. انتقل أبو ماهر من مساعد مرورٍ درّاجٍ إلى منشقٍّ طازجٍ يتذمّر من فوضوية الجيش الحرّ، ثم إلى عنصرٍ في كتيبةٍ لم تطلق على عسكر بشار طلقةً واحدة، ثم إلى قائدٍ لكتيبةٍ منشقةٍ عن كتيبته الأم، لينتهي به المطاف أخيراً جندياً من أشدّ جنود "الدولة الإسلامية" إخلاصاً كلامياً لها. وها هو اليوم يقف على حاجزٍ رئيسيٍّ من حواجز "ولاية الخير"، يتصيّد فرص ابتزاز عابرين لن يتاح له استثمارها كما تحدّثه نفسه الأمّارة بالرشوة، فيشاغلها بتحديث إخوته من جنود "الدولة" عن مهارةٍ له خلال عمله السابق جعلته مشهوراً بين أبناء السلك المروريّ على مستوى دمشق، وهي اكتشاف السيارات العاملة على الغاز المنزليّ الممنوع. لم يكن عمله السابق شاقاً، وعمله الحاليّ كذلك، لكنه مملٌّ بعض الشيء، مللٌ قد تبدّده سيارة طحينٍ يمرّن غريزة أنفه بشمّ مسحوقها الأبيض، دون مبالاةٍ بتذمّر السائقين أو عبارات استنكارهم المتكرّرة: "مخدرات، هاي مو مخدرات تا تشمّها أبو الخطاب. لو كانت مخدرات ما شفتني هين".