صورةٌ شعاعيّةٌ للقامشلي.. بعيون مهندسٍ من دير الزور

 تضمّ مدينة القامشلي وريفها (شمال شرقيّ سوريا) الكثير من النازحين من مختلف المناطق. وبحسب العديد من المنظمات الإغاثية يشكّل أهالي دير الزور أكثر أولئك النازحين، لقربها جغرافياً منهم، ولاستقرارها النسبيّ، وبعدها النسبيّ كذلك عن قوّات النظام وتنظيم الدولة. لكن تلك النسبية تنفتح على واقعٍ بعيدٍ كلياً عن الإعلام يعيشه المهندس المدنيّ أبو حمزة، كما الكثير من أبناء دير الزور الذين يقطنون اليوم في القامشلي.

ينظر أبو حمزة إلى ما يحدث في القامشلي بعيون المراقب. وقد أمدّته بميزة المتابعة الدائمة للتطورات معرفته بالكثير من الجامعيين والناشطين والحقوقيين والموظفين الذين جاءوا معه من دير الزور أو تعرّف إليهم في غربته الجديدة.

القوى العسكريّة والفوضى المقنّعة
أعلنت الإدارة الذاتية القامشلي عاصمةً لما سمّته روج آفا، بحسب حزب الاتحاد الديمقراطي صاحب السطوة الأكبر في تلك المنطقة. وتعني التسمية غرب كردستان، وتشمل الأراضي الممتدة من القامشلي حتى عفرين. وتمثل وحدات حماية الشعب، الذراع العسكريّ للحزب، أهم القوى المسلحة في القامشلي، إلى جانب الآساييش (قوات الأمن الداخلي الكردية) وقوات حماية المرأة. لكن العديد من الشهادات تفيد بأن «الكادرو» (أو الهاربين من الجبل، وهم مسؤولون حزبيون من جبل قنديل لا يجيدون العربية ويرافقهم مترجمون) هم الذين يديرون المدينة. وتسيطر ميليشيا الدفاع الوطني على أحياءٍ عربية، وخاصّةً حيّ طي. مع وجودٍ صغيرٍ لكنه حاسمٌ لقوات النظام في المربع الأمنيّ ومطار القامشلي، حيث السلاح الثقيل الذي لوّح به النظام في اشتباكاتٍ سابقة. وبالإضافة إلى القوات الروسية في المطار هناك، على مسافة 65 كم منه، قاعدةٌ أميركيةٌ في مطار أبو حجر في رميلان، كما يجري الكلام عن تأسيس قاعدةٍ فرنسيةٍ في المستقبل. ويعيش في المدينة مهاجرون من بلجيكا وألمانيا وبريطانيا وغيرها جاؤوا بدعوى قتال تنظيم الدولة.
بين كلّ هؤلاء يتجمع قسمٌ من المسيحيين في ميليشيا السوتورو التي تتمركز في الأحياء المسيحية من المدينة، وتتلقى الدعم والسلاح من النظام. بينما يتعاون قسمٌ آخر من المسيحيين، باسم المجلس العسكريّ السريانيّ، مع جيش الصناديد الذي يعبّر عن قبيلة شمّر وفصائل من الجيش الحرّ تركت دير الزور مع سيطرة تنظيم الدولة الذي جمع كلّ هذه القوى العسكرية والميليشيات والفصائل على هدفٍ مشتركٍ هو قتاله، لكن مع خلافاتٍ كثيرةٍ في التفاصيل والأهداف تظهر بين الحين والآخر على شكل اشتباكاتٍ ونزاعاتٍ وقصفٍ وخطفٍ واعتقالٍ متبادل.

القوى المدنيّة والأوتار الحسّاسة
ما زالت الدوائر والمؤسّسات الحكومية تعمل في القامشلي، وترحب الوحدات بوجودها لتجنّب الصدام مع تركيا -بحسب البعض- وللاستفادة من خدماتها. فهناك دوائر المحكمة والسجل المدنيّ والمصارف وغيرها، إلى جانب تلك التي شكلها الأكراد في عمر الثورة، كالمحكمة أيضاً ومراكز جباية المياه والكهرباء ومجلس المدينة، ويسيّرها حزب الاتحاد الديمقراطيّ الذي فرض العديد من الضرائب على النظافة وحماية الأسواق. وتمتد الحكومة الكردية المشكلة في عامودا إلى القامشلي، وتضمّ 14 «وزارةً» بالإضافة إلى دار الشعب. وتسيطر الإدارة الذاتية على حقل رميلان النفطيّ، ويعمل فيه موظفون من الإدارة ومن النظام لتكون الأرباح مناصفةً بينهما. كما تسيطر الإدارة على التعليم الأساسيّ بينما الإعداديّ والثانويّ من حصّة النظام الذي يدفع رواتب جميع المعلمين.
وتوجد في القامشلي العديد من المنظمات الدولية، كبرنامج الأغذية العالميّ التابع للأمم المتحدة WFP وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP ومنظمة الفاو واليونيسكو، والكثير من المنظمات العالمية غير الحكومية، كمنظمة كير وأطباء بلا حدود. إلى جانب عشرات الأحزاب والمنظمات والجمعيات الأهلية التي تقيم الورشات والنشاطات بشكلٍ دائمٍ حول العدالة الانتقالية والدعم النفسيّ والحوار وحلّ النزاعات والتماسك الاجتماعيّ. بالإضافة إلى هيئاتٍ ومنظماتٍ وجمعياتٍ محسوبةٍ على الثورة تعمل في المدينة بشكلٍ سريّ.

الفورة الاقتصادية
يغذي معبر فيشخابور (سيمالكا) القامشلي ومحيطها بجميع مستلزمات الحياة. وقد أغلقه إقليم كردستان العراق في وجه الإدارة الذاتية مع إعلان فيدرالية (روج آفا)، لترتفع الأسعار سريعاً وتودع العديد من البضائع السوق. لكنها أعادت فتحه في 7 حزيران الجاري لتدخل في اليوم التالي شحنات الطحين إلى المدينة. ولوجود عددٍ كبيرٍ من الأشكال التنظيمية، وبسبب واردات النفط وصوامع الحبوب في تل حميس وتل براك، ورواتب العاملين في الدوائر الحكومية والكردية، ورواتب المسلحين من كل الأطراف، والدعم المادي القادم من أحزابٍ وتجمعاتٍ كرديةٍ في الخارج ومنظماتٍ إغاثيةٍ كثيرةٍ ومساعدات المغتربين، بالإضافة إلى العاملين في الصحف المحلية الجديدة و8 قنواتٍ تلفزيونيةٍ و12 قناة راديو؛ فإن سوق القامشلي يشهد تدفقاً كبيراً في العملة الأجنبية حتى صار التعامل بالدولار الأميركيّ هو السائد في كثيرٍ من المحالّ التجارية.


الوافدون
يعيش في القامشلي ومحيطها 200 ألف نسمةٍ بحسب إحصاء 2003. ويقدّر ناشطون اليوم عددهم بـ300 ألفٍ مكوّنين من الأكراد والعرب والأرمن والسريان والكلدان وغيرهم. وبحسب بيانات أكثر من منظمةٍ إغاثيةٍ فقد توافدت إلى المدينة 10000 عائلةٍ من دير الزور و7000 من حلب و1500 من الرقة و800 من حمص و500 من ريف دمشق. وقد قيّدت وحدات حماية الشعب استقبال هؤلاء النازحين وتنقلهم، وتشترط لذلك وجود سند إقامةٍ وعقد إيجارٍ وكفالةٍ من شخصٍ كرديٍّ وورقةً من المختار (كومين) وموافقة قوات الآساييش ودار الشعب. لكن الوحدات وجميع المؤسّسات المحلية التابعة للإدارة الذاتية في المدينة تفتح أبواب العمل لديها للوافدين الذين قد تصل رواتبهم إلى 90 ألف ليرةٍ سورية. ويمنحهم حزب الاتحاد الديمقراطي هوية عملٍ خاصّةٍ تحمل اسم «الوزارة» المحلية التي يعملون فيها، كالإعلام أو الداخلية أو العدل، لتيسير شؤون حاملها. كما ترحّب الإدارة بالوافدين في قوّاتها المسلحة. ويستثنى من العمل والتطويع أهالي الغمر.
على أن كلّ ما ورد أعلاه لا يمتّ لأبو حمزة بصلة، رغم أنه سجّله لـ«عين المدينة» بعين المهندس الذي كانه قبل خروجه من دير الزور باتجاه القامشلي.

أصدقاء المهندس الجدد
«ناس تشتغل معاهم مشان المصاري، وناس لأنه خايفة منهم، وناس مشان ما تنطرد من أراضيهم»؛ هكذا يلخص أبو حمزة الأسباب التي تدفع الوافدين إلى العمل مع القوى المسيطرة في القامشلي. أما هو فيقول: «عرضوا علي اشتغل معاهم بمجلس المدينة، بس الشغل معاهم خيانة للثورة». وفضّل بيع مصاغ زوجته والعمل كسائق أجرةٍ على سيارة سابا اشتراها بثمن المصاغ. وعندما صار الوقود سلعةً نادرةً اضطرّ إلى بيع السيارة والبحث عن عملٍ آخر. وخلال بحثه كان «يتعكز» مع طفليه على راتب زوجته الذي سرعان ما قطعه قرار محافظ دير الزور بفصلها. وجد أبو حمزة عملاً في فرنٍ لقاء 400 ليرةٍ في اليوم، لكن صاحب الفرن تخلى عنه لتشغيل أحد الأكراد من المنطقة. فتوسّط أحد معارفه السابقين لدى صاحب مقهى لتشغيله بأجرٍ يوميٍّ قدره 700 ليرة. وفي العمل تعرّف إلى أحمد طالب ماجستير الكيمياء، وأخيه الصيدليّ الذي يعمل على بسطة خضرة، وأختيهما المهندسة الزراعية ومدرّسة اللغة الإنكليزية اللتين تعملان في حفر الكوسا والباذنجان وتقطيف الملوخية لتباع لأثرياء القامشلي. وعن طريق هؤلاء صار يعرف قائمةً طويلةً من الجامعيين الذين يتدرّجون في العمل من قيادة التكسي إلى تنظيف البيوت.

غربة
بعد مدّةٍ من عمله في المقهى اختاره الشغيلة للطلب من صاحبها رفع أجورهم، فطرده من العمل مع جملةٍ تتردد في مسامعه حتى اليوم: «الحقّ علينا شغلناكم»، صارت مكبّرةً ينظر من خلالها إلى المحيط الذي يعيش وسطه. فهو محرومٌ من أكثر فرص العمل لعدم معرفته باللغة الكردية، كما أن العديد من أصحاب المهن لا يشغلون أهالي الدير.
في ظلّ العوز الذي يعيشانه صارت زوجته تستعمل أكياس القمامة السوداء لتحفيض طفلتهما الجديدة التي أسمياها غربة، وهاجسهما الوحيد تأمين حليب الأطفال لها. في حين بدأ أبو حمزة، وقد واكب عمليات تهجيرٍ قامت بها وحدات الحماية في حقّ العرب والمسيحيين يعيد النظر في أولوياته: «ممكن أقدّم على مديرية أو مؤسّسة تابعة للإدارة الذاتية مشان شغلة وحدة؛ محّد يطردني من هون إذا صار طرد أو محّد يقرّب عليّ».