تحتلّ دير الزور المركز الثاني في الثروة الغنميّة بين المحافظات السورية؛ ففي إحصائيات وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي لعام 2011 كان عدد الأغنام في المحافظة 2.597.349 من أصل 18.071.291 هو إجمالي أعدادها في القطر.
ولكن أزمةً حقيقيةً باتت تهدّد هذه الثروة في السنتين الأخيرتين، لا في هذه المحافظة فحسب بل في القطر ككل، سببها عوامل عديدةٌ لعل أبرزها تسرّب أعدادٍ كبيرةٍ من رؤوس الأغنام إلى خارج القطر، وقلة معدل الأمطار، إضافة إلى تضاعف أسعار الأعلاف، وندرتها في بعض الأحيان، وغيرها من العوامل، لعل معرفتها من خلال الحوار مع مربّي الأغنام خير دليلٍ على حجم هذه المعاناة.
أحمـــد العلـي: تربـية الأغنام.. صعوباتٌ لا تنتهي
يسرد أحمد، وهو من أهالي قرية الزباري، معاناته في تربية قطيعه من الماشية من خلال كل خطوةٍ من خطوات هذا العمل الأساسية. فعادةً ما يرحل مربّو الأغنام إلى الجزيرة السورية، وتحديداً إلى ما يعرف لديهم بمنطقة خط العشرة، طلباً لمرعىً جيدٍ لمواشيهم، في ما يعرف ـ باصطلاح الرعاة ـ برحلتي الشامية والجزيرة. وعن ذلك يقول أحمد: تشكّل مناطق معينةٌ في محافظة الحسكة مكاناً يشدّ الرعاة الرحال إليه بعد انتهاء كلّ موسم حصاد، أي تقريباً في بداية الشهر السادس من كل عام. وهذه المناطق؛ كرأس العين، وعامودا، والدرباسية، والقامشلي، تكثر فيها المراعي، سواء كأرضٍ مشاع، أم كحقولٍ انتهى فيها حصاد محصول القمح. وطبعاً لا يغامر الراعي ويسافر مع أغنامه مباشرةً، بل يحتاج إلى رحلةٍ استكشافيةٍ قبل أن يحضر قطيعه، حتى لو كان يأتي سنوياً إلى ذات المكان، فقد يكون صاحب الأرض قد امتنع عن الموافقة بالسماح لقطيع هذا المربّي بالرعي في أراضيه، أو أنه سمح لمربٍّ ثانٍ باستثمار أرضه، الأمر الذي يتطلب البحث عن أرضٍ أخرى لرعي القطيع. وبالنسبة إليّ، ورغم أنني أحضر قطيعي إلى الأرض نفسها في مدينة الدرباسية منذ أكثر من ثماني سنوات، إلا أنني أقوم بهذه الزيارة الاستكشافية تحسباً لأيّ أمرٍ طارئ.
رشىً يتقاضاها الشريكان؛ الجيـش النظـامي وحــزب الاتحـاد الديمقراطي الكردستاني
ويتابع العلي حديثه: في السنوات السابقة لم نكن نحتاج إلى دفع أموالٍ كرشىً للوصول إلى مكان الرعي، سوى 200 ل. س يتقاضاها أحد العساكر في الحاجز عند دوار غويران في مدينة الحسكة، أما الآن فذات الحاجز يطلب مبلغ عشرين ألف ليرةٍ كي لا يعرقل عملك ويمنعك من العبور! أما بالنسبة إلى حاجز الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، أو ما يعرف بـ (PYD)، الموجود قبل مدينة الدرباسية، فيأخذ من 10000 إلى 15000 ليرةٍ كرشوةٍ صريحة، عدا عن وصلٍ يقطعه للراعي بقيمة 5000 ليرة
مقابل السماح له بالعبور للرعي في الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم. ولا ينتهي الأمر عند هذا الحدّ، إذ إنهم يحجزون هوية الراعي مقابل ذهابه لإحضار صاحب الأرض أو الضمان، ويضطر الراعي إلى أن يدفع 1000 ليرة عن كل يوم تأخير. وعندما يأتي صاحب الضمان يُكتفى منه بشهادةٍ شفويّةٍ مفادها أنه يسمح لهذا الراعي بأن يتضمّن أرضه. وهنا يكون مجموع ما دُفع كرشاوى نقدية قد تجاوز الأربعين ألف ليرة.
ولا ينتهي مسلسل الرشوة عند الرفاق أبناء الحزب التقدميّ عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه ليصل إلى تشليح الراعي فطيمةً كهديةٍ لرئيس الحاجز. ويعلّق أحمد على هذه النقطة بقوله: كانت قيمة الفطيمة التي دفعتها عنوةً لرئيس الحاجز ما يقارب 18000 ليرة. ولا زلت أتذكر تعليقه باللغة الكردية عندما شاهد الفطيمة (برخي باش)، فرددت عليه بلهجتنا المحكيّة: ولونها أحمر زاد.
كما أن حلاوة الرشوة دفعت بالرفاق المناضلين المرابطين على الحدود إلى الطمع بالمزيد، الأمر الذي يضطرّ الراعي المسكين إلى تجهيز فطورٍ لهم كل يومين من اللبن أو الجبنة. وعن ذلك يخبرنا أحمد: يكلفني ثمن فطور عناصر الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بين 3000 و4000 ليرة أسبوعياً.
رحلةٌ لا تنتهي مشاقّها عند هذا الحدّ
يقول أحمد: في المواسم الجيدة عادةً ما يرفض الكرام من أصحاب الأراضي تقاضي أيّ مبلغٍ لقاء رعي الأغنام في الأرض المحصودة، ولكن في مثل الظروف التي نعيشها في السنتين الأخيرتين لا يقلّ سعر ضمان الدونم الواحد عن 200 ليرة. وفي المناطق التي يسيطر على أغلبها الجيش الحرّ، كرأس العين، يكون سعر الضمان أعلى، ليصل حتى 500 ليرة. وعادةً ما يضطرّ لهكذا أراضي الرعاة الراغبون بالأمان أو المنشقون، أي من انشقوا عن الجيش النظامي ورجعوا لمزاولة الرعي.
ثم يتابع: يبقى الرعاة القادمون من دير الزور في محافظة الحسكة طيلة فترة الضمان، والتي هي أربعة شهور عادةً. وتحتاج عملية نقل الأغنام في الذهاب إلى 70000 ليرة، ونقل الجرار إلى 15000 ليرة. أما في الإياب فكلفة نقل الأغنام 90000 ليرة، ونقل الجرار 25000 ليرة. أما التكاليف الكليّة التي دُفعت لأصحاب الأراضي التي رعت فيها أغنامنا فهي 200000 ليرة. وعند الوصول بالقطيع إلى قريتنا أحتاج أيضاً إلى أن أتضمّن أرضاً جديدةً من أحد الفلاحين كي يرعى بها قطيعي. وهذا العام زاد سعر دونم الذرة الصفراء، أو ما يعرف عند أهالي الجزيرة والفرات بالصفيرة، من 7000 ليرة العام الفائت إلى 10000 ليرة، أما ضمان دونم القطن فارتفع من 1000 إلى 3000 ليرة. ولما كان القطيع المؤلف من 200 رأسٍ يحتاج إلى دونم ذرةٍ كل أربعة أيام، فإن تكاليف الضمان خلال شهرين تساوي 150000 ليرة، أما القطن فيحتاج نفس القطيع إلى دونمٍ منه يومياً، أي 60000 ليرة خلال شهرين.
شتاءٌ مكـلفٌ جداً لتربيـة القطــيع
خلف الخضير راعي أغنامٍ من قرية بقرص، أوضح لنا التكاليف الباهظة جداً لتربية الأغنام في فصل الشتاء، بقوله: بعد الخلاص من ضمان حقول القطن والصفيرة نضطر إلى استخدام بعض المزروعات، إضافةً إلى الأعلاف المركّزة، من نخالةٍ وكسبة قطن، وقشرة قطن.. إلخ، والتي ارتفعت أسعارها في السنتين الأخيرتين، ليحتاج القطيع المكون من 200 رأسٍ إلى ما يقارب 8000 ليرةٍ يومياً كمصاريف تغذية، وهذا يجعل من تربية الأغنام عمليةً خاسرةً تقريباً. وعملنا الحالي هو للمحافظة على القطيع فقط، بل حتى لو خسرنا 5% من القطيع فهو أمرٌ مقبولٌ حتى نستطيع تجاوز هذه الأزمة وتفادي خسارة القطيع كاملاً.
أسعار الأعلاف قبل الأزمــــة وبعدها
للوقوف على هذا الأمر كان لا بدّ من معرفة التفاصيل من أحد المعنيّين بحركة بيع وشراء الأعلاف، فكان أن التقينا بزكي النهار، وهو صاحب صيدليةٍ زراعية، فتفضل بالقول: سابقاً، ورغم فساد الدولة، إلا أنها كانت تؤمّن مساعدةً جيدةً لمربّي الماشية من خلال ما يسمّى الدورة العلفيّة، التي تستمرّ من أول الشتاء إلى آخر الربيع. إذ توجد في فرع أعلاف دير الزور مجموعةٌ من المراكز الموزّعة في مناطق المحافظة كافة، وهي: (الـ 7 كم الرئيسي، الشـــــرقي، موحـــــسن، الكسرة، التبني، الميادين، الرحبــــــة، البوكمـــــــال، الصور، كباجب، الكشكية). وتقوم هذه المراكز بتوزيع المواد العلفية لجميع أنواع الثروة الحيوانية، فتؤمّن الأعلاف المركّزة للمربين بأقلّ من نصف القيمة. ولهذا يعتبر ثمن هذه المواد قد تضاعف عدّة مراتٍ عما سبق، وإليك بعض الأمثلة: النخالة كان سعرها 7 ليرات والآن 31 ليرة، الشعير كان سعره بين 10 إلى 11 ليرة، وأصبح 28 ـ 29 ليرة، وغيرها وغيرها من المواد المركّزة التي اختلف سعرها.
أما عن المقترح فيؤكّد النهار أنه لا بد أن تقوم جهةٌ ما بحلّ هذه المشكلة التي تواجه مربّي الماشية، من خلال العودة من جديدٍ إلى توفير الأعلاف المركّزة وقت الحاجة بأسعارٍ مدعومة، وذلك حتى نضمن بقاء ثروتنا الغنميّة على وجه الخصوص مزدهرةً ومحفوظةً من التراجع والانهيار.