- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
شبّيحة في سجن عدرا!
حسناً..
وبلا مقدّمات، أنا صاحب هذا الكلام أمضيت ثلاث سنينٍ في سجون الطاغية، أمضيتها تحت الأرض وعلى الأرض وفوق الأرض، من فرع فلسطين إلى الشرطة العسكرية إلى سجن عدرا، لأحاكَم أمام محكمة قضايا الإرهاب بتهمتَي ترويج أعمالٍ إرهابيةٍ وتمويل أعمالٍ إرهابية.
لن أتحدث عن الموت الذي أحاط بي من جميع الجهات في أقبية فرع فلسطين، ولن أتحدث عن أفعال سحق الإنسانية التي مورست عليّ وعلى من حولي، ولن أتحدث عن عدد الذين قرأت الفاتحة على أرواحهم، أو عن أشكال المعطوبين الذين انتظروا أو تمنّوا الخلاص بصعود أرواحهم إلى بارئها ولم أعد أعرف عن مصيرهم شيئاً... فقد وصلت إلى سجن عدرا بكامل قواي العقلية وبعض قواي الجسدية. نعم، إنه سجن دمشق المركزيّ، البناء المهيب الذي لطالما تمنّيت أن أصل إليه، فسجن عدرا يعني العودة إلى الحياة لكثيرين قد لا يواجهوا حكماً بالإعدام!
إنّه المكان المزدحم بجميع أصناف البشر، حيث البسطاء والطيبون والثوّار واللصوص والقوّادون والقتلة وما هبّ ودبّ من أصحاب الجُنَح وأصحاب الجرائم الشائنة، إضافةً إلى الشبيحة! نعم، الشبيحة الذين خبرناهم ورأينا فيديوهاتهم تكتسح اليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعيّ. وهذا ما لا يعرفه الكثيرون؛ إذ إنّ محكمة قضايا الإرهاب، التي أنشأها النظام عام 2012 كبديلٍ عن محكمة أمن الدولة، تحاكم -إلى جانب المدانين بارتكاب أعمالٍ إرهابيةٍ أو تمويلها أو الترويج لها- عددا كبيراً من الشبيحة الذين عملوا لصالح النظام وقاتلوا في صفوف ميليشياته ولا زالوا على ولائهم الأعمى له. تحاكمهم بالتهم نفسها التي توجّهها للمعتقلين، ولكن ليس لأعمالٍ قاموا بها ضدّ النظام وأجهزته المختلفة، وإنّما على خلفية خلافاتٍ حدثت بينهم وبين مشغّليهم أو الضبّاط المسؤولين عنهم. وهذه الخلافات تحدث عادةً -كما عرفت منهم نتيجة نشوء شبكةٍ من العلاقات المعقّدة داخل السجن- من أجل الغنائم سواء أكانت مسروقاتٍ أو أموالاً أو معلومات، أو بسبب قضايا خطفٍ فاشلة، كخطف أحد التجار أو أبنائهم مقابل فدية، فيتبيّن أن هذا المخطوف -ولسوء حظّ الشبّيح- ذا حظوةٍ لدى بعض الضباط المتنفذين فيُلقى القبض على الخاطفين، إضافة إلى بعض المتورّطين فعلاً بقضايا بيع ذخيرةٍ للجيش الحرّ في المناطق المحاصرة مقابل مبالغ خياليّة.
تغيّر السجن كثيراً بتقدّم أعوام الثورة، وذلك بتغيّر طبيعة وسمات الموقوفين فيه. ففي أواخر عام 2013 عندما وصلت إليه كنت أستطيع التحدث –ولو سرّاً– مع عددٍ لا بأس به من الشباب الذين شاركوا حقيقةً أو أسهموا -ولو عن بعد- في العمل الثوريّ الذي كان على قدمٍ وساق، إذ كانت معظم المناطق –قبل اعتقالهم– مفتوحةً على بعضها، وإمكانية الدخول والخروج من وإلى الأحياء أو البلدات الثائرة متاحةٌ إلى حدٍّ ما، وطرق التهريب كثيرةٌ ومتشعّبة. كنا نستطيع على أقلّ تقديرٍ التحدث بأمور البلاد والعباد، ونتشارك أحلامنا وآمالنا وجنوننا واستهتارنا وخوفنا من المجهول بل وخيباتنا الكثيرة أيضاً.
ولكن مع انفصال المناطق عن بعضها، وعدم قدرة الناشطين على الحركة منها وإليها، إضافةً إلى حصار الغوطتين، ثمّ حملات التمشيط الأمنية الكثيفة التي قام بها النظام في مدينة دمشق وضواحيها؛ أصبحت نوعية المعتقلين مختلفة. فمعظم الذين اعتقلوا في عام 2014، وكتب لهم الوصول إلى سجن دمشق المركزيّ بعد أن عانوا ما عانوه، كانوا من سكان المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، ولم تكن لغالبيتهم صلةٌ بالعمل الثوريّ -حتى أنّ جزءاً منهم كان مؤيّداً!- إلّا أنّ الحواجز، ودون أيّ معايير مفهومة، التهمتهم كما التهمت غيرهم سابقاً من قاطني المناطق المنتفضة على نظام الطاغية.
وباستثناء بعض الحالات القليلة الموجودة قبلاً، بدأت وفود الشبيحة تجتاح سجن دمشق المركزيّ بلا استئذانٍ عام 2014، حتى وصل عددهم عند خروجي من السجن إلى ما يقارب 3000، بتهمٍ تتراوح بين تمويل أعمالٍ إرهابيةٍ وارتكاب أعمالٍ إرهابيةٍ والسرقة في زمن الاضطرابات وكتم الجناية، والقتل أيضاً!
ومع ازدياد أعدادهم وتكتّلهم ضمن أجنحة السجن زاد الأمر سوءاً على المعتقلين، وخصوصاً منهم من شاركوا بشكلٍ فعليٍّ في العمل الثوريّ. وما زاد الطين بلّةً هو عملية التسفير الكبيرة التي قامت بها إدارة السجون، بإيعازٍ من الأمن القوميّ المسؤول بشكلٍ مباشرٍ عن عمل محكمة قضايا الإرهاب، إذ تمّ نقل 900 معتقلٍ (من ريف دمشق، ومعظمهم من الغوطة الشرقية) إلى سجني حماة والسويداء بعد تهديد جيش الإسلام باقتحام سجن دمشق المركزيّ، في شباط 2015.
في المرحلة التي تلت التسفير أصبحت للشبيحة داخل السجن صولةٌ وجولة. وقد استدعت إدارة السجن قادة مجموعاتهم وأخطرتهم أنّها ستشكل منهم «لجنة حمايةٍ مسلحةٍ للدفاع عن السجن وضبط الأمن فيه» في حال تدهورت الأوضاع في محيطه. كيف لا وهم محطّ ثقةٍ مطلقةٍ من قبل الضباط في الإدارة وقسم الحراسات ومفرزة التحقيق ومفرزة الأمن السياسيّ التي تصلها تقارير يوميةٌ من معظمهم عن تحرّكات المعتقلين ونشاطاتهم وصِلاتهم في ما بينهم وصَلاتهم إلى ربهم! هذه التقارير هي سلاح الخوف الذي يرهب المعتقلين فعلاً، فتقريرٌ واحدٌ –ولو كان كيدياً- حول تكتلٍ سياسيٍّ أو دينيٍّ أو مناطقيٍّ محتمل، أو عن مجرّد التفكير باستعصاء، أو شتم الطاغية أو أخيه أو حسن نصر الله، أو الدولة أو القضاء أو الإعلام الرسميّ؛ كفيلٌ بنقل السجين/المعتقل إلى فرع الأمن السياسيّ، حيث رحلةٌ أمنيةٌ جديدةٌ ودعوى أخرى أمام محكمة قضايا الإرهاب، إن قدّرت له النجاة من الموت والعودة إلى رحاب غرفته وسريره!
يطرح تراكم أضابير الشبيحة في محكمة قضايا الإرهاب تساؤلاتٍ عدّة؛ فما الذي تريده السلطة الأمنية من زيادة أعدادهم في هذه المحكمة؟ إذا أخذنا في الاعتبار ازدياد تحويلات المعتقلين الذين لهم أدنى علاقةٍ بالعمل الثوريّ من الأفرع الأمنية إلى محكمتَي الميدان العسكرية الأولى والثانية، وترحيلهم في ما بعد إلى قدرهم المحتوم بالموت في سجن صيدنايا العسكريّ. وما الذي تريده المعارضة من النقاش الذي طرح حول طلب حلّ محكمة الإرهاب دون الحديث عن محكمة الميدان العسكرية؟...
للعلم وللعلم فقط: إنّ بادرة حسن النية التي تشدّق بها وزير الخارجية الروسيّ سيرجي لافروف في رسالةٍ بعثها إلى المشاركين في (اللقاء التشاوري للحوار السوريّ-السوريّ)، وتولّى ممثله عظمة الله كولمحمدوف إلقاءها، وكنت قد تابعت ذلك بشغفٍ وترقّبٍ على قناة «سما» الفضائية وأنا أضطجع على سريري الأثير في الجناح السابع/غرفة رقم 10، حول إطلاق النظام سراح عددٍ من المعتقلين عام 2015؛ كانت الإفراج عن عددٍ من السجناء كانوا جميعاً من الشبيحة، ومنهم من يحمل بطاقات جمعية البستان الخيرية التابعة لرامي مخلوف، والموسومة بأختامٍ من إدارة المخابرات الجوية!
لقد قال لافروف وقتها: «نشير بارتياحٍ إلى خطوةٍ مهمةٍ أقدمت عليها الحكومة السورية قبيل لقاء موسكو الحالي حول إطلاق سراح 683 معتقلٍ في السجون السورية في إطار العفو العام في الـ24-25 مارس/ آذار عام 2015. ويُدّعى بأنه في الحقيقة تمّ إطلاق سراح عددٍ أقلّ من المعتقلين مما تمّ الإعلان عنه، ولكننا في كلّ حالٍ نعتبر هذه الخطوة إشارةً واضحةً لاستعداد الحكومة السورية لتلبية طلبات هيئات المجتمع المدنيّ والأوساط المعارضة، والسؤال: كيف سترد عليه المعارضة؟».
إنّه سؤال مهمٌّ فعلاً يا سيّد لافروف، كيف ستردّ المعارضة على كلّ هذا الهراء؟ مرّ عامٌ ونيّفٌ على هذه الحادثة ولم تردّ المعارضة، وخرجتُ من السجن ولم تردّ المعارضة، وغادرتُ البلاد بصعوبةٍ بالغةٍ ولم تردّ المعارضة. وما زال عشرات الآلاف من القابعين في السجون المدنية والأفرع الأمنية يتوهّمون أنّ قضية المعتقلين هي القضيّة رقم واحد!
30/ 7/ 2016
مواليد 1984. شاعرٌ ومخرج أفلامٍ وثائقية. اعتقل في 23/4/2013 على خلفية نشاطه الإعلاميّ المساند للثورة، إذ صوّر وأعدّ عدداً من التقارير لصالح قنوات الجزيرة والجزيرة الإنكليزية وأورينت، إضافة إلى فيلمين وثائقيين طويلين عرضا على قناة العربية: (خطوط القلب الجنوبية/ إعداد وتصوير وإخراج)؛ (اللجاة - أيام مع الجيش السوري الحرّ/ إعداد). له ديوانٌ مطبوعٌ بعنوان (المخامر الأخير)، صدر عام 2010 عن دار كنعان بدمشق. أطلق سراحه بكفالةٍ ماليةٍ على أن يحاكم خارج السجن، بعد اعتقالٍ دام 3 سنوات، فغادر سورية سرّاً إلى تركيا.