الاغتيال المنظّم للقانون
محمد عثمان
مؤلف هذا الكتاب هو هيثم المالح، أحد أبرز الحقوقيين المعارضين لنظام الأسدين، وقد سجن في عهد كليهما. وكتابه وثيقةٌ هامةٌ عن جوانب متعددةٍ لحالة العدالة وحقوق الإنسان في سورية منذ 1963. صدر الكتاب في طبعتين، ظهرت الأولى منهما بعنوان «حقوق الإنسان بين التعذيب والطوارئ». ونعرض هنا الثانية، التي صدرت عام 2012 عن دار مدارك بدبيّ وبيروت. جمع المالح في كتابه نصوصاً أعدّها في مناسباتٍ مختلفة؛ تناول الأول منها حالة الطوارئ وأثرها على حقوق الإنسان، وجاء الثاني بعنوان «القانون ضد العدالة» عن القانون 49 لعام 1980 الخاصّ بأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، والثالث بعنوان «من التعذيب إلى منع التعذيب»، بينما تناول الرابع القضاء في سوريا، وأتى الخامس بعنوان «الجريمة والعقاب»، وتناول الأخير الإصلاحات المزعومة لبشار الأسد إثر اندلاع الثورة، تحت عنوان «الخداع». الأمر اللافت في كلام المالح بدايةً هو قوله بأن حالة الطوارئ، المفروضة في سوريا منذ استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963، لاغيةٌ قانوناً بحكم دستور 1973، الذي أناط إعلانها وتجديدها برئيس الجمهورية. وبالنظر إلى أن حافظ الأسد لم يجدّد العمل بهذه الحالة فإن كلّ ما انبنى عليها، من قراراتٍ واعتقالاتٍ ومحاكمات، يعدّ لاغياً! وهو أمرٌ يقول المالح إنه قد عُرض على القضاء في دراساتٍ ومذكّراتٍ عديدةٍ، ولكن أية محكمةٍ لم تجرؤ على البتّ فيه، رغم الآثار الفادحة لحالة الطوارئ على القضاء وحقوق الإنسان في البلاد. فقد أدّت هذه الحالة إلى انعدام سلطة القضاء بصدد الاعتقالات، وحجب حقّ الدفاع عن المعتقلين، ومنع ذويهم من معرفة مصائرهم، وإعدام الآلاف منهم إثر محاكماتٍ ميدانية، وفرار عددٍ كبيرٍ آخر إلى خارج سوريا ومنعهم من الحصول على جوازات سفر، وطغيان الأجهزة الأمنية على الناس ونشرها الرعب في أرجاء البلاد. ولكن هذه ليست المخالفة الوحيدة للدستور بالطبع في «سورية الأسد». فهناك القانون 49 الشهير، الذي يقضي بإعدام كلّ من ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين. وقد نصّت المادة 30 من الدستور على عدم جواز تشريع قوانين ذات أثرٍ رجعيٍّ في الأمور الجزائية، ولذلك كان من الواجب عرض هذا القانون على المحكمة الدستورية، ولكن هيهات؛ فإحالة القوانين على هذه المحكمة لدراستها لا تتمّ إلا من قبل رئيس الجمهورية، وهو من أوعز بسنّ القانون وقتها، أو باعتراض ربع أعضاء مجلس الشعب عليه، وهم الذين سارعوا إلى رفع أياديهم بالموافقة طبعاً. ففي أقبية الأمن لا حصانة لأحد، ووسائل التعذيب غير المشروع جاهزة: الكرسيّ الألمانيّ والدولاب وبساط الريح والسلّم والشبح والجلد والصعق بالكهرباء والضرب بالكابلات والحرق بالسجائر. وهو ما وثقه المالح في مذكّرةٍ عن التعذيب أعدّها ليقدّمها إلى رئاسة الوزراء الفرنسية، بمناسبة مسابقةٍ أعلنت عنها اللجنة الاستشارية لحقوق الإنسان في فرنسا عام 2004. «الطريف» في الأمر أن المالح لم يعثر في دمشق على من يجرؤ على ترجمة هذه المذكّرة سرّاً إلى الفرنسية، فاضطرّ إلى إرسالها بالعربية. ورغم ذلك فقد وجّهت إليه الدعوة إلى قصر الإليزيه من قبل رئيس الوزراء الفرنسيّ، ولكنه أعيد من مطار دمشق الدوليّ، محمّلاً بمغلفٍ يطلب منه مراجعة شعبة الأمن السياسيّ. أما حال القضاء في سوريا فقد انحدر، منذ 1963، إلى مستوياتٍ غير معهودةٍ من الاستباحة. إذ أصبح للأجهزة الأمنية الرأي الأرجح في تعيين القضاة وإرسال التقارير عنهم، فضلاً عن رشاوى تقدّم للمتنفذين في سبيل هذا التعيين، يستوفيها «القاضي» لاحقاً من عملية الفساد المتكاملة بينه وبين كثيرٍ من المحامين. فانهار القضاء انهياراً كاملاً، وهو حصن الأمة الأخير لحماية أرواح المواطنين وأعراضهم وحرّياتهم وممتلكاتهم، وصار دميةً في يد الأجهزة الأمنية والسلطات العليا، نتيجة ما يرى المؤلف أنه «اغتيالٌ منظّم». ولما اندلعت الاحتجاجات في الشارع السوريّ، إثر كلّ هذا القدر من الظلم والاستهانة والفساد، حاولت السلطة الالتفاف على مطالب الثائرين بإعلانها إيقاف العمل بحالة الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة العليا. ولكنها أصدرت، مع حزمة «الإصلاحات» المزعومة هذه، مرسوماً تشريعياً يخوّل الضابطة العدلية ومفوّضيها توقيف المتهمين بجرائم تمسّ أمن الدولة والنيل من هيبتها، و«تعكّر الصفاء» بين عناصر الأمة، والمظاهرات وأعمال الشغب. مما يعني أن النظام استعاد بيدٍ ما قدّمه باليد الأخرى خداعاً.