سهرةٌ في كوفي نت الثورة...

على شكل صندوقٍ مفتوح، تتوزّع الطاولات في صالة الإنترنت التي افتتحها مقاتلٌ من الجيش الحرّ، مع شريكٍ له، في وسط الجزء المحرّر من مدينة دير الزور، وأطلق عليها اسم "كوفي نت الثورة". يبدو المكان قادراً على استيعاب عددٍ كبيرٍ من الزبائن، وخاصةً مع إضافة الأرائك بجانب طاولة مدير الصالة، لتتسع لمن يرغب باستخدام جوّاله للدخول إلى الشبكة.

معظم الزبائن هم من مقاتلي الجيش الحرّ، الذين يجدون في هذه الصالة تسليةً غير ضارةٍ في أوقات فراغهم،
دون أن تغيب "أعمالهم" عن هذا الفراغ، فكلّ الأحاديث التي يجرونها تدور حول الثورة والحرب وتفاصيلها ويومياتها. وعندما تهدأ جبهات دير الزور، كحال هذه الأيام، تشخص الأنظار إلى جبهاتٍ أخرى بحثاً عن انتصارٍ "يرفع المعنويات"، كما يفسّر الجمـــيع اهتمامهم بأخبار سجن حلب المركزيّ. وعندما يصيح أحد الزبائن فرحاً "تحرّر السجن يا شباب"، يفهـــــم الجميــع أن المقصــود هو سجن حلب، ويفكر أحدهم أن يبشر صديقه لأن له شقيقاً معتقلاً هناك. ودون تحرٍّ دقيقٍ يصبح الخبر حقيقةً تبنى عليها وجهات نــظرٍ وتحليلاتٌ عسكــــريةٌ في الحديث الذي ينشأ بسرعةٍ بين الزبائن الذين يعرفون بعضهم، فيقول الأول: "هذا الشغل شغل الجبهة والتوحيد، مو مثل ربعنا المباكـــطين"، ويردّ الثانـــي: "بس ترى حلب بيها دعم غير... ترى حتى الصواريخ المضادة للــــطيران عندهـــم... وإحنا شكون؟ هالذخيرة الناعمة وكم قذيفة تجي بالقطارة ويبلعونها كتايب الريف"... ينتفض مقاتلٌ من كـــــتائب الريف وُجد عرضاً في الصالة ويسأل عن أصول الشهداء الذين يسقطون على جبهات المدينة وأعدادهم؟ ودون إجابةٍ عن تساؤل المقاتل الريفي، ينشغل الجميع رويداً رويداً بشاشـــــاتهم في دقائــــق من الهدوء والتركيز في شؤونهم الإنترنتية الخاصة، لا يشوّش عليها إلا صوت زبونٍ يتحدث مع صديقه خـــارج البلاد، وهو يكذبّ شائعةً جديدةً باقتحــام الجيش الأسديّ للمدينة، فيقول متهكماً: "زين ما خليتهم يوصلون لنادي اليقظة... بس قل لي من وين تجيبون هالأخبار هاي؟...
عيب ياخي. قال عصام زهر الدين قعد يأركل بالحديقــــة المركــــــزية قال!"...

لأحاديث العائلة مكان

في ساعات المساء الأولى جرت العادة أن تأتي أمهاتٌ وسيداتٌ كبيرات السن إلى الصالة لإجراء اتصالٍ أو محادثةٍ مع أحد أفراد الأسرة المقيم في مكانٍ آخر، باستخدام برنامج السكايب. وبالصوت والصورة تجري المحادثة التي تكلف 250 ليرةً للساعة الواحدة، تدفعها الأم بجديةٍ من "جزدانٍ منمم" غالباً ما يكتب عليه "رضاكي يا أمي". ويظهر الزبائن المقاتلون تقديراً خاصاً لتلك الأمهات وحرصاً على عدم التشويش على محادثاتهن، وربما الإصغاء السعيد للهفة الأم على ابنتها المغتربة وسؤالها: "شلونكي يا عيني؟... وشلون عمّوري مو كبران؟"... وردّها على تساؤل الطرف الآخر: "إي والله القذايف فوق روسنا... شكون نعمل يا عيني وين نروح بحالنا... الله يهدم بيتك يا بشار.. البلد خربت وشيعمرها؟". وتتوالى مفردات اللهجة الديرية العتيقة، التي تبدو طبيعيةً ومفاجئةً في آنٍ واحدٍ للزبائن الآخرين الذين ألفوا خلال سنوات الثورة الثلاث مئات الكلمات والاصطلاحات الجديدة.

عندما تنقطع الكهرباء

يتوقف كل شيء، وتنقطع كل التشابكات السابقة عندما ينقطع التيار. ثوانٍ من الصمت المفاجئ ثم الانتقال إلى موضوعٍ شائكٍ يُبحث يومياً آلاف المرات؛ موضوع الكهرباء المتداخل مع كل شيءٍ في أيام دير الزور، كالنفط والغاز والثورة، وكذلك الريف والمدينة، والشرع والقانون والعشيرة. فيقول شابٌ غاضبٌ كان يهمس عبر السكايب مع صديقةٍ له قبل انقطاع الكهرباء: "ولاد الحرام... يوزنون الآلافات بالميزين وما يشبعون... كل ما انزعج واحد يجي يفجّر الخط"... ويردّ عليه رجلٌ أكبر سناً لا يريد أن يصدّق خبر التفجير، الذي يعني انقطاع التيار لعدة أيام: "صلي عالنبي ياخي. هسع تجي إن شا الله"..
تدار مولدة الكهرباء وتعمل الأجهزة من جديد. يدخل رجلٌ مقنّعٌ ويجلس كعادة المهاجرين في بداية الصالة، ويدخل في محادثةٍ كتابية. يخفض الجميع أصواتهم، وبعد رحيله يعودون إلى طبيعتهم. يعلق أحدهم بدفاعٍ عن المهاجرين: "هم زينين بس إحنا اللي محنا زينين".