سعد الذي أحب درعا وأوصى أن يُدفن فيها ولم يُدفن

SANA

في الطريق إلى مدينة إزرع التابعة لمحافظة درعا أمضى سعد خدمته الإلزامية، في اللواء 69دفاع جوي، برتبة ملازم أول بعد أن أنهى دراسته لهندسة الاتصالات. في المرات القليلة التي تحدّث فيها عن فترة خدمته، باعتبارها أسراراً عسكرية، كان يتندّر بمولدة الديزل التي أفرز لها العميد مجندين يُمضيان يومهما في ملء خزان الوقود المثقوب خاصتها طوال فترة خدمته، كان يضحك وهو يروي هذه القصة ويتساءل عن السبب الذي منع الجميع من إصلاح ثقب المولدة الروسية المسؤولة عن شحن الصواريخ حيال أي غارة جوية من العدوان الإسرائيلي على المنطقة؟

قبيل اعتقاله بأيام في عام 2014 بعد أن التحق بركب الثورة، روى سعد الحكاية ولكن بطريقة مختلفة عن المرات السابقة، كانت ملامحه قاسية هذه المرّة، وكان وجهه مليئاً بحزن دفين. أخبرنا عن العميد الذي كان يبيع آلاف لترات المازوت من مُخصصات المولدة، وعن الرادارات تحت الأرض والتي كانت تراقب الطائرات "الإسرائيلية" دون أن يمتلك أي من الضباط حق الضغط على زر الإطلاق، رغم أن الطائرات الإسرائيلية كانت تجوب الأراضي اللبنانية وتخترق الأجواء السورية دائماً، وروى لنا كيف أمضى عقوبة السجن والتحقيق معه حين تجرّأ وسأل عن جدوى هذه "الخرضة" القديمة (صواريخ ذكرها ونسيت اسمها تتبع بالوناً حرارياً، وتُكلّف الدولة ملايين الليرات والوقود والجنود بلا طائل).

وحدثنا عن أمّه (أم سعد) حين رفعت يديها إلى السماء ودعت له، فأمضى "دورة الأغرار" في حمص، وفي المرة الثانية جاء فرزه إلى درعا، وحين عاد في إجازته الأولى وهمّت بالدعاء له طلب إليها التوقف ضاحكاً "هالمرة بيفرزوني على تل أبيب". ضحك كثيراً وأضاء وجهه وهو يكلمنا عن أم سعد، قال إنها اليوم تشبه تلك الخارجة من قصص غسان كنفاني، وحدثنا عن دعائها له في الثورة، وكيف باركت التحاقه بها "إذا مو أنت مين بدو يكون فيها".

أكثر ما كان يفخر به أمامنا هو خدمته في درعا، كان يعرف كل "شجرات الجوز" في قراها على حد قوله، "درعا مهد الثورة وشرارتها الأولى"، منها "هلّت لبشاير" كان يقولها باللهجة الحورانية التي يُجيدها، ويُدندن بأغنيات لا نفهمها.

اعتُقل سعد في واحدة من معارك حلب القديمة، كان يُوصينا دائماً إن قتل في المعركة أن ندفنه تحت شجرة جوز في درعا، وحين كنا نسأله عن السبب كان يجيبنا دائماً "درعا ما بتسقط، وما بدي اندفن بأرض فيها هدول الكلاب".

لا أعرف إن كان سعد قد استشهد فعلاً في واحد من أقبية النظام، ولكن كل ما تبادر إلى ذهني وأنا أسمع أخبار مصالحات درعا ودخول قوات الأسد إليها، كيف كنت سأخبر سعد بأن درعا سقطت وأن "الكلاب" سيدخلونها؟

 كلمتني اليوم أم سعد، كانت تبكي وهي تستجدي مني جواباً يُريح قلبها بأن درعا ما زالت صامدة، فدرعا هي سعد، كلاهما لن يسقط. حاولت جاهداً تمييع الحقيقة، تحدثت عن الاتفاقيات المُشرّفة والشروط التي يُمنع بموجبها دخول قوات الأسد إلى كثير من قرى درعا، وأخبرتُها أن إعلام النظام يكذب ويضخم الأشياء، وسرعان ما انابتني لحظة من الصمت، لا يمكن لنا أن نكذب في حضرة أم سعد، أقفلتْ الهاتف وتركتني وحدي بارداً ويتيماً.

عزائي الوحيد كان في أن المعتقلين لا يملكون أجهزة خليوية كي لا يشعروا بالخذلان الذي نعيشه، وأن لا يتسرّب اليأس الذي يعترينا إلى قلوبهم الحية، لن يشاهدوا ظاهرة "الضفادع" ولا الردّ بشتائم "أحمد العودة"، ولسنا مطالبين أمامهم بالوقوف على أسباب سقوط حلب والغوطة الشرقية ودرعا اليوم. لن يكون بإمكانهم الكتابة لنا عن خيانتنا لأرواح الشهداء والمعتقلين، سنكتفي باعتبار ما حدث "أسراراً عسكرية" كما كان يفعل سعد دائماً، إلى أن نتعافى بثورة جديدة نستطيع فيها البوح بما في داخلنا، ونروي كل الحكايا، ولكن بملامح قاسية، ووصايا نُدفن فيها تحت شجر الجوز الذي لا يسقط.