زهر في عفرين لاستحضار الغياب

بعدسة الكاتب

"ممنوع أن تزرع زهوراً قد تضطر لتركها خلفك في كل مرة"

مع السنوات بدأ بائعو الزهور الحولية في عفرين يألفون زبائن جدد، مثلما اعتاد الزبائن أن يألفوا باعة جدد. وفي زحمة السكان والفقر والمشاكل المتنوعة واستعادة النكبات والحنين، تظهر الزهور في المشاتل وعربات الجوالين بوقتها، فتبعث لكل من في عفرين اليوم شرفات وشبابيك كانوا يطلون منها على العالم.

وسط روتين الحياة اليومي، وانطفاء ألق ما في وجوه الناس في منافيهم الداخلية، تنشط كل عام حركة بيع الزهور الحولية في فصل الربيع، وتجذب ألوانها ورائحتها أشخاصاً يربطونها بهواية زراعتها أو بماضٍ يرغبون باستعادة شيء جميل منه.

قبل أن يلاحظ الناس عودة الزهور، يُحضر أبو إسماعيل (من سكان عفرين) لموسم الربيع بوقت باكر من كل سنة، حتى تتفتح الأزهار مع بداية الموسم، ما يضمن نسبة مبيعات أكبر. يقول: "موسم الحوليات يحتاج تجهيزات كثيرة من ناحية السماد والمواد العضوية، وتعبئة أكياس التربة والبذار، ومتابعة سقايتها اليومية، لتكون جاهزة ومتفتحة بحجم جيد مع حلول شهر نيسان“. لا يذكر الرجل الشغف ضمن ما يذكر، ربما كانت السنوات الأخيرة جعلته أكثر حذراً وتوجساً، فالشغف لا يعيش مع الحذر وإقفال النفس على ذاتها، أو أن النكبات قتلت الشغف داخله.

وحين يعاني الناس في عفرين من وطأة الفقر حد العوز، لا ينسون الزهور. إذ لطالما ترك المهجرون ذكريات كثيرة في منازلهم، لكن زهور حدائقهم أو شرفات المنازل تشكل "روح" تلك الأمكنة، التي يحاولون بعثها واستعادة بعض ذكرياتها بزراعة زهور جديدة في مخيماتهم ومناطق تهجيرهم.

تقول فاطمة (مهجرة من دمشق) : "تحتوي شرفة منزلي في دمشق أنواعاً مختلفة من الزهور العطرية، كل سنة أحاول استعادة شيء منها على شرفة منزلي المستأجر في عفرين، رغم ضعف الإمكانيات المادية.. فنجان قهوة صباحي أمام أزهار التوليب والريحان يحملني لدمشق كل يوم، تعيد لي رائحة منزلي وعبق أزهاره".

تلك "الروح" التي يحاول سكان المخيمات تخفيف حرارة الصيف بها، من خلال زرع مساحة خضراء وبعض الشجيرات حول خيامهم، وتغيير منظر المخيم من اللون الأبيض للخيام و للأرضية المفروشة بالحصى الأبيض أيضاً.

يقول تيم (مهجر من دمشق يقطن مخيم دير بلوط): "تعطي الزهور والنباتات قليلاً من الرطوبة، ما يساعد على تحمل حر الخيمة في الصيف، نزرعها في محيط الخيمة، ذلك يمنح بعض الروح للمخيم بإضافة بعض الألوان له".

في حين يكتفي أحمد الحجي بمطالعة الزهور وتصويرها. يقول "ثمن شتلة الزهر يعادل ثمن خبز يوم لعائلتي“. لذلك امتنع عن شرائها مكتفياً بالنظر.

يستغل باعة متجولون موسم الربيع بتحميل سياراتهم بمختلف أنواع الزهور المتفتحة لجذب انتباه المارة ودفعهم للشراء، وهو ما يعتبر فرصة عمل موسمية. يقول خالد العلي (مهجر من ريف حماة): "نستغل موسم الربيع في إيجاد مورد مادي نعيل به عائلاتنا، نستهدف مراكز المدن والأسواق الرئيسية وبعض المخيمات، منظر الزهور يجذب انتباه المارة بين متفرج وراغب بالشراء، كل حسب مقدرته المادية".

تختلف أسعار الزهور حسب نوعها، وتبلغ خمس ليرات تركية للأزهار مثل رمش المحبوب وفم السمكة وريحان وشاشات شامية وميراج وسجاد هولندي، وتصل إلى ٣٥ ليرة تركية لنباتات الصالونات والزين الداخلية.

لكن تبقى كمية شتلات الزهر المباعة قليلة نسبياً، لعدة أسباب منها ضعف المورد المادي للأهالي، ووجود أعداد كبيرة من المهجرين القاطنين في منازل بدون إكساء. يقول أبو اسماعيل: "من أصل عشرة آلاف شتلة تم بيع أربعة آلاف إلى الآن، حالة الفقر الشديدة التي يعاني منها الناس جعلت شراء الزهور من الثانويات، كما أن التنقل المتكرر يمنع كثيراً منهم من زراعة زهور قد يضطرون لتركها خلفهم في كل مرة".

ويواجه أصحاب المشاتل صعوبات عدة مع ارتفاع أسعار السماد والوقود، ويتابع أبو إسماعيل: "يبلغ سعر كيس سماد اليوريا ٢٠٠ ليرة تركية، وسعر برميل الوقود ٨٠٠ ليرة، ونحتاج لكمية كبيرة منه خلال الموسم، إضافة إلى المبيدات الحشرية التي نشتريها من الصيدليات الزراعية".

وتعرض المشاتل في عفرين وبلداتها إلى جانب الزهور الحولية، شتلات أشجار الفاكهة وشجيرات الزيتون والرمان اللتين تشتهر منطقة عفرين بزراعتهما، بالإضافة إلى عدة أنواع من أشجار الزينة والصنوبريات.