لم يكن الحيّ الذي دلفنا إليه مختلفاً عن بقية الأحياء التي عبرنا من خلالها...
فالجزء المتبقي واقفاً يعجّ بساكنيه. لكنني شعرت بالرهبة والبرود أول الأمر،
فالحياة هنا متوترة، وعليك أن تقفز كل برهةٍ لتتفادى قذيفة ما قد تخترقك أو تقسمك نصفين..
زد على ذلك أنك، مع التكرار، قد تتلبسك حالة من الانشداد والبقاء على أهبة الاستعداد..
كان العبور إلى المناطق المحررة سهلاً.. حتى أنني استغربت ذلك..
ويبدو أن للنظام خططاً وغاياتٍ كثيرة حتى يسهّل الأمر كل هذا التسهيل.
عجّ المركب بالعابرين..
المسافة بين الضفتين قصيرة..
ترجلتُ ورفيقاتي.. عاينتُ المكان... سيارات أجرة.. موتورات.. سيارات شحنٍ تنقل الأثاث المنزلي من وإلى.
العمل على المعبر على قدم وساق، وفرصه هنا متوفرة وكثيرة. ركبنا سيارة أجرة وانطلقنا إلى المعبر الثاني... جسر السياسية.
وهناك أقنعنا السائق بالمتابعة معنا إلى داخل المدينة المحررة.
وهو ما حصل..في آخر الزقاق الممتد حتى تقاطع الشيخ ياسين بالحميدية رجلٌ يجلس على كرسيّ، يضع رأسه بين كفّيه.
- نبحث عن بيت أم إسماعيل "الشهيد".
-نظر إلينا.. دمعتان ملأتا عينيه.. نهض وسار أمامنا.
- تفضلوا.. فتح الباب المؤدّي إلى المدخل...
- البيت على اليمين. دخلنا.. فالباب كان على مصراعيه. ورائحة البخور والهال تملأ المكان.
غصّت الصالة بالنساء... وفي زاويتها القصيّة جلست صديقتنا الطيبة أم الشهيد.
تحمل كتاب الله ومسبحة.. على وجهها هالة من سكينة..اقتربنا.. احتضنتها..
بكينا وعبّرنا عن ألمنا لفقدها وفرحتنا لنيله الشهادة مقبلاً غير مدبر، فقد كنّا أخواتٍ في هيئة تدريسية واحدة. وحين انقسمتِ المدينة بقيتْ في بيتها واتجهتْ إلى العمل مع من بقوا هناك في بطولةٍ وصبر.راحتْ تروي لنا قصة استشهاده وهي تحمد الله مع كل زفرة.. وتمسح على وجهها محتسبة.
كنت أنصتُ إلى حديثها وأرنو بعينيّ إلى مجموعات النساء اللواتي اتشحن بالسواد وقد ملأن الصالة.
كل منهنّ تحمل صور أحبتها على محمولها تتباهى للأخرى بجمال هذا الذي فقدته.
أو ذاك العريض الأكتاف الذي لم ينجُ ولده معه... أو تلك التي أنهى الصاروخ بيتها وأطفالها وزوجها وقدميها. لكن ما سمعته من أحاديثهن.. هزّ فيّ الوجدان وجعلني أقف كل لحظة وأكاد أتوجه إليهن فأقبل رؤوسهن. إن شكتِ الأولى موت ولدها.. ترد الأخرى:
- احمدي ربك عندك غيره. أنا راح ووحيد..
فتردّ الثانية:
ـ لكنك دفنته في قبرٍ يا حليمة.. ابني كل قطعة بقبر.
وتعقّب الأخرى:
ـ بس تعرفون قبورهم.. ماذا أقول أنا ولم أحظ حتى بقطعة من ولدي. ابني
ما له قبر أزوره. من إحدى الزوايا ينطلق صوت أخرى:
ـ أنتم تعرفون أنهم ماتوا.. شهداء عند ربهم الحنّان الكريم. أنا ما أعرف وينهم؟ طيبين وإلا ميتين؟ جوّى التراب وإلا بين أيدي المجرمين؟ احمدوا ربكم.
تمتمات مبحوحة: "الحمد لله"، "الحمد لله".
يا الله.. كم أحنّ لضمّكن واحدة واحدة.. تقبيلكنّ..
ينضحن بالصبر والاحتساب.. والبطولة، ثم ينتقلن للحديث عن أوضاع المدينة.. وما يجب وما لا يجب في العمليات البطولية للثوار. يناقشن خططاً لدعم الحياة المعاشية هناك.. وأنا أتلصّص عليهن.
رغبـــــــــــــــــةٌ عارمــــــــــــــةٌ تشــــــــــــدّني إلى البقاء هنا.. فالخوف والرهبة والتوتر تلاشوا.. نظرت إلى أم اسماعيل، كانت تروي لصديقاتها بعض ما تقوم به من أعمالٍ هناك..
فهي تشرف على ورشات توعيةٍ، وتدرّس في المدارس الميدانية، وتدعم الثوار نفسياً بالنصيحة والرأي. على وجهها، ذي الملامح الطيبة، ترتسم تفاصيل قوةٍ وعزمٍ وإصرار. تنهرني صديقاتي أن ستغرب الشمس.. وعلينا العودة.. قطعةٌ مني ستبقى هنا.. وسأعود لاستردادها حتماً..