دعت إدارة المدرسة السورية للاجئين أولياء أمور الطلاب المتغيّبين، فحضرت أمهات بعضهم والتقين بالمرشدة النفسية في غرفة المعلمات.
لم تكن الغرفة سوى كرفانةٍ توسّطت مجموعةً من شبيهاتها في ساحةٍ كبيرةٍ لمبنى واسعٍ وهبته جهةٌ ما للاجئين السوريين لغرض إنشاء مدرسةٍ تدعمها منظماتٌ مانحة. ورغم ضيق المساحة وتراصّ الصناديق، التي ضمّت الكثير من القرطاسية والكتب المدرسية، في أرجاء الغرفة؛ نجحت إلهام، المرشدة النفسية، في ترتيبها لتستقبل أكبر عددٍ من الضيوف، ولتبدو مكتباً مدرسياً بالفعل.
"ليش يغيبون ولدكم؟" تخاطب إلهام سيدتين من أولياء الأمور الذين كانوا جميعاً من النساء، جئن متفرّقاتٍ وغير مبالياتٍ كثيراً بتسيّب الأولاد في أرض النزوح التي تعدّ المدرسة فيها أمراً ثانوياً لبعض النازحين، رغم أنها، في الآن نفسه، سبب نزوح كثيرٍ منهم من المناطق التي تسيطر عليها داعش في دير الزور والرقة وغيرها. تذكّر المرشدة النفسية السيدتين بهذا: "واللي طالعنا من الدير مو دراستهم؟! كان ممكن نتحمّل كلّ شي إلا أنهم يظلون بلا مدارس. الفرصة أسع قدّامهم، لا تضيّعونها حرام". لم يبدُ على أم أحمد وأم سعيد ما يكفي من التجاوب مع تشجيع المرشدة؛ فلدى الأولى همٌّ أكبر من المدرسة، فقد اعتقل النظام زوجها وهربت بالأولاد وأنفقت كلّ ما ادّخرته، أو ما كانت تسمّيه "الخميرة لميلات الزمان"، خلال ثلاثة أشهرٍ، ليضطرّ بعدها الأولاد، بمن فيهم المتسيّب من المدرسة، إلى العمل بـ"يومياتٍ" تكفي لتحصيل الحدّ الأدنى. وكان تبرير الثانية، أم سعيد، منطقياً أيضاً؛ إذ إن العائلة عزمت مؤخراً على الهجرة بعد سلسلة آلامٍ كان أبرزها اعتقال الأب في سجن تدمر، وتعرّضه للتعذيب هناك حتى كاد أن يموت "لو ما حرّرته داعش"، وما زال يخضع للعلاج حتى الآن. "بلكي الله يفرجها علينا بألمانيا".
ولكن لمدرّسة اللغة الإنكليزية، والتي انضمّت خلال الفرصة إلى الجلسة، موقفها الخاصّ من هجرة السوريين الى أوربا؛ فالهجرة "كذبة، وإحنا بحيل مصدقينها. شبابنا راحوا، كلهم هاجروا، ما ظلّ أحد هون؛ أخواتي وولاد خوالي وولاد عمامي، ظلينا بس النسوان. ألمانيا راح تسع السوريين كلهم؟ وشكون الثمن؟"... "صرنا عايشين بالمراسلة، علاقاتنا بالمراسلة، تعازينا ومباركاتنا ومعايداتنا عالنت. إي حتى جيزاتنا عالنت!". تؤيّد معلمة الرياضيات الموقف الرافض للهجرة، وتروي، خلال ذلك، ما استطاعت من قصتها منذ انشقاق زوجها الضابط، ثم هربهم من دير الزور صفر اليدين خوفاً من داعش. وتنجح سامية، معلّمة الصف الثاني، في رواية قدرٍ أكبر من قصّتها؛ بيع سيارتهم، وهي كلّ ما يمتلكوه، بمليون ليرةٍ اعتقدوا أنها مبلغٌ كبيرٌ "سيسترهم في تركيا"، قبل أن يتبخّر خلال شهرين، لتدور اليوم "من جمعية لجمعية ومن منظمة لمنظمة أشحذ عالكيمليك".
قاطعتها سناء، معلّمة الرسم: "صارلي سنة هون، تعلمت التركي وأدرِّس بمعهد. حماتي تعمل المونة وتبيعها وعايشين مرتاحين، ونوفر زيدين. عليش تانقعد ونندب حظنا! صح بلدنا مو إلنا أسّع، بس راح يرجع ونرجع على بيوتنا ولو كانت خراب".
رغم التفاؤل والثقة في لغة معلمة الرسم إلا أن الحزن والصمت خيّما للحظاتٍ في جوّ المعلمات، إذ فكرت كلٌّ منهنّ في مستقبلها انطلاقاً من هواجس الفاقة والتشرّد والضياع. قبل أن تذكرهنّ سعاد بأم عبد الله "الخراجة... اللي بشارع ستة إلا ربع أوّلي؟؟ عدها كومة لحم... ما عدها معيل إلا الله، ومع هاد كل شي يزود عندها آخر كل شهر تعطينيّاه. عدها كومة بطاقات؛ شي الدانماركية وشي للعطاء وشي للهلال. وممشية حالها ما شاء الله".
يرنّ جرس المدرسة معلناً انتهاء اجتماع المعلمات مع أمهات الطلاب المتسيّبين في مدرسة "الضيوف السوريين".