من على منبره الفيسبوكيّ، هجا أحد مشاهير التواصل الاجتماعيّ من الكتّاب ما أسماه: "أكشاك الثورة الإعلامية المفتوحة في تركيا". وكذلك خصّص صحفيٌّ وسيناريست معارضٌ مقالةً طويلةً لشتم المعارضة التي هي "أسوأ من النظام"، "شارحاً" دور وسائل الإعلام الثورية في التآمر على الثورة، لأنها تتبع لشبكات المخابرات الغربية، على حد وصفه. وفي حين احتفل المعلّقون على الأوّل ببوسته الثوريّ هذا؛ اعتبر مريدو الثاني مقالته جرأةً ما بعدها جرأة. وكذلك فعلت مواقع تشبيحيةٌ مواليةٌ حين أعادت نشرها رغم صدورها على صفحات أحد المواقع المدعومة من دولة قطر.
لا حاجة للقول هنا إنّ الحديث عن حال المعارضة وتشكيلاتها "السياسية" بات ترداداً للصدى ولزوم ما لا يلزم، فقد أصبح من جملة المعتاد شتم الائتلاف والمجلس الوطنيّ من قبله، ولهذا حديث آخر. لكن أن يصل الحال إلى اعتبار وسائل إعلام الثورة جزءاً من مؤامرةٍ "هدفها شراء ذمم وخلق شبكات للتلاعب بالعقول وإدارة وتوجيه الرأي العام" فهذا شيء يستحقّ التوقف عنده وعند متفوّهيه.
عندما كانت مظاهرات يوم الجمعة الثورية في أوجها، دفعت الحاجة إلى نقل أحداث المظاهرات والاعتقالات والاقتحامات الآلاف من الشباب السوريّ إلى التحوّل إلى مواطنين صحفيين، من خلال التواصل مع وسائل الإعلام ونشر الأخبار والفيديوهات على الفيسبوك واليوتيوب. وكانت تهمة التواصل مع "القنوات الإعلامية المضللة والعميلة" إحدى أشهر التهم التي اعتمدها النظام لتغييب آلاف الشباب في المعتقلات. تطوّر الأمر لاحقاً إلى تأسيس المراكز الإعلامية المستقلة أو المرتبطة بالتنسيقيات الثورية بحسب كلّ منطقةٍ وضمن إمكانياتٍ متواضعة، في ظلّ نقصٍ في الخبرات والمعدّات، والرقابة على الإنترنت أو انقطاعه. ومع توسّع الثورة وظهور الجيش الحرّ وتحرير العديد من المناطق من قبضة النظام، كان التوجه العام في المجتمعات المحلية إلى خلق بنىً جديدةٍ لإدارة هذه المناطق، فتأسّست المجالس المحلية والمنظمات الأهلية التي جاءت بتلقائيةٍ لتعوّض عن غياب السلطة البائدة، ولتحافظ على قدرٍ من دوام طبيعية الحياة رغم استمرار مجازر النظام. وبغضّ النظر عن تجربة المجالس والهيئات المحلية التي يطول الحديث عنها؛ إلا أنّ هذه الفترة شهدت أيضاً بداية تحول العمل الإعلاميّ الثوريّ، من اقتصاره على أخبار القصف والاعتقال السريعة على صفحات الإنترنت، والعناوين الفضفاضة لبعض القنوات الإخبارية المهتمة بسوريا، إلى صيغٍ أكثر قرباً وملامسةً للمجتمعات الأهلية الثورية وحراكها المدنيّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ والعسكريّ، مدفوعاً بضرورة تأسيس إعلامٍ مواجهٍ لإعلام النظام المعروف. فضلاً عن ضرورة ظهور وسائل إعلاميةٍ تمكن طباعتها وتوزيعها، في ظلّ انقطاع الكهرباء والإنترنت والاتصالات شبه المتواصل التي عانت وما زالت تعاني منه معظم المناطق المحرّرة. هكذا إذاً ظهرت الصحف والمجلات الثورية، ومواقعها الالكترونية لاحقاً، كجزءٍ من بنية الثورة.
من باب الموضوعية، يتعيّن القول إنّ المؤسّسات الإعلامية الثورية، على تفاوتها وتواضع إمكانياتها، لم تصل بعد إلى درجةٍ كافيةٍ من النضج ولا الشعبية اللتين تستطيع بهما منافسة وسائل الإعلام العالمية والعربية التي يتطلب نقاد الصحافة الثورية منها أن تنافسهم، وإلا لا يحتسبونها ضمن وسائل الإعلام. كما أنه ليس من السهل قياس مدى "تأثير" هذه التجربة الإعلامية على "المواطن السوريّ" خلال السنوات الثلاث التي شهدت انطلاق معظم الصحف الجديدة، وضمن الظروف المتغيّرة للثورة والحرب، وبيئة العمل الصحفيّ التي تعدّ الأخطر في العالم، إذا لم نرد الحديث عن مشاكل الحصول على تمويل والطباعة والتوزيع وملاحقة الصحفيين والمنع في بعض الأحيان. ومع ذلك؛ حققت المطبوعات الثورية اليوم، ومواقعها الإلكترونية، تطوّراً ملحوظاً على المستوى المهنيّ لا تخطئه عين المتابع من ناحية، وعلى مستوى هامش الحرّية المتاح ضمنها من جهة المواضيع، ومن ناحية نشر آراء وتعقيبات نقادها و"متابعيها" على صفحاتها إن أرادوا من ناحيةٍ أخرى، وهذا ما حدث غير مرّةٍ على هذا المنبر وسواه.
بما أنّ العمل الإعلاميّ لن يتوقف في أيّ مكانٍ على وجه العالم، وبما أن بناء إعلامٍ جديدٍ حرٍّ في سوريا هو مشروعٌ قائمٌ بقوام المجتمع؛ فإن تجربة الإعلام الثوريّ جاءت في الدرجة الأولى للتخلص من نمط إعلام نظام حافظ وبشار، الذي ترعرع واشتهر في أروقة مؤسّساته وعبر شاشة تلفزيونه البائس شتّامون يدركون بوضاعةٍ داخليةٍ أنهم لا يسهمون في بناء شيء، ولذلك تصبح النميمة والخطاب الشعبويّ سلاحاً وحيداً، تحت غطاء النقد والتاريخ النضاليّ منتهي الصلاحية.