خشب المدارس يحترق

كانت شرفة منزلي، في الطابق الرابع من أحد أبنية حيّ مساكن هنانو الواقع في أحد أطراف مدينة حلب، تطلّ على مدرسةٍ سمّيت «محمد قصار». كانت المدرسة، كما في كل البلاد، تقلق صباحاتنا في ما مضى بصريخ الموجهين والطلاب وأداء الشعار، وفي أحسن الأحوال أغنية فيروز «خبطة قدمكن عالأرض هدّارة». على جدرانها كُتبت تلك الحكم التي تبتدئ بـ«إني أرى في الرياضة حياة» ولا تنتهي عند «لا رقابة على الفكر إلا رقابة الضمير». تلك الجمل التي أرضعونا إياها مع سمة الخلود للمعلم الأول والفلاح الأول والرجل الأول في كل شيء، حافظ الأسد.

كان الهدوء يسيطر على المدرسة هذا اليوم من عام 2014. فمنذ غدت «مدينة هنانو» محرّرةً والنظام يستهدف المدارس والثوار يتخذونها مقرّاتٍ لهم. أحالني الهدوء إلى التساؤل عن الطريقة التي كانت تأخذ المدارس في بلدي أسماءها. خطر لي مرّةً أن أبحث عن أسماء الشهداء المركونة على واجهات المدارس، في أيّ الحروب استشهدوا ومن كان العدوّ في الطرف المقابل؟ رغم أني من جيلٍ بدأ عقده الرابع بالتورط في الحياة ولم أشهد حرباً ولا أطلقنا رصاصةً إلا على أنفسنا.

للحظةٍ قلت: في حرب تشرين، ثم استبعدت الفكرة. قال لي والدي مرّةً إنه في حرب تشرين، وفي ثكنة هنانو، المقرّ العسكريّ لتجمع الجنود الجدد والاحتياط، كانوا 750 شاباً طلبهم الجيش للاحتياط حين أتى أحد الضباط ليطلب ثلاثة جنودٍ للجبهة، ثلاثةً فقط! أخبر الضابط الموجودين أن الأمر اختياريّ، ولم يفلح في إخراج ثلاثةٍ من الحشد. أتى بعده ضابطٌ أكبر قال أبي إنه كان عقيداً في التوجيه السياسيّ، تحدث عن الوطن، وعن أهمية التضحية، وتطرق للدين والشهداء والجنة، وأهمية النضال. باءت محاولته بالفشل أيضاً. ليأتي بعدها ضابطٌ صغير السن برتبة ملازمٍ بدأ بالسباب علينا، كما قال أبي، واتهمنا بالخيانة، وبدأ بانتقاء أضخمنا وأليقنا للخدمة الميدانية. كنا نختبئ خلف بعضنا وكانت نعمة الطول والضخامة نقمةً في ذلك اليوم. أخذ الملازم ما يقارب عشرين شاباً من الموجودين، ورمقنا بنظرة ازدراء، ثم بصق. مرّ حديث والدي أمامي كلحظة يقينٍ أردت خلالها استبعاد أن يكون الاسم لشهيدٍ كان في حرب تشرين.

قلت لعله كان في حرب لبنان. استبعدت الفكرة أيضاً بسرعة، الجنود الذين ماتوا في حرب لبنان كانوا من الدرجة الثانية، ولا يليق بهم أن يكونوا أسماء تزين مدارس البعث. البعث... هذه هي! لعلهم كانوا شهداء في حرب «سحق الأداة المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة»، التي كانت شعار مدارسنا اليوميّ لثلاثين سنةً ماضية. أعرف من أحد أبناء الشهداء وقتها أن الذين حاربوا «الإخوان المسلمين» كانوا في مرتبةٍ عالية، شهداء من الدرجة الأولى، وحاز أبناؤهم منحاً دراسيةً لمفاضلاتٍ خاصّةٍ بهم بعد نجاحهم في نيل الشهادة الثانوية بأيّ مجموعٍ ليدخلوا ما يريدون من كلياتٍ كانت عصيةً علينا نحن الذين كتب الله على آبائنا أن لا يكونوا شهداء حسب مفهوم البعث.

كم من المدارس سنحتاج عند انتهاء الثورة لينال شهداؤنا حقهم في أن تكون لاسمهم لافتةٌ من المعدن توضع على واجهات المدارس الجديدة «غير البعثية»؟ وكيف سنميّز وقتها بين الشهداء على أسس الدرجات، من حارب تحت الراية الإسلامية أو تحت فصيلٍ ما أو الجيش الحرّ؟ وتتالت التسميات أمامي إلى درجةٍ عجزت فيها عن إكمال العدّ.

نظرت إلى المدرسة التي هدمت سورها طائرةٌ سورية، وأزالت اللافتة المعدنية السوداء مع الباب بالكامل. ربما احترق الاسم الذي كان مكتوباً بدهانٍ أبيض، ربما أحرقوا من اعترفوا بهم كشهداء من الدرجة الأولى ومنحوهم سكناً على «تنكةٍ معدنية».

لم أجد طلاباً في المدرسة، فقد مات معظم روادها وهاجر القسم المتبقي أما الأطفال الجدد فلا حاجة إلى تعليمهم. في الباحة كان أحد الشبان يكسر ببندقيته ما تبقى من مقعدٍ خشبيٍّ ليضعه في ما يشبه المدفأة عليها إبريقٌ من الشاي. كل ما خطر في بالي وقتها بيتٌ من الشعر ارتجلته على عجل:

خشب المدارس يحترق        في كوب شايٍ من حطب