حكاية عائلةٍ من مدينة عندان

حطّت سيارةٌ تحمل حوالي عشرة أشخاصٍ، بين رجالٍ ونساءٍ وعددٍ من الأطفال، أمام منزل أبو أيمن. كانت محمّلةٌ بأغراضٍ منزليةٍ وأدوات مطبخٍ وبعض المواد الغذائية. دخل الجميع إلى المنزل المؤلف من غرفتين وصالون: النساء في غرفةٍ والرجال في الثانية والأمتعة في الصالون. رحّب أبو أيمن وزوجته بالضيوف، وجلس الجميع يلتقطون أنفاسهم حول المدفأة.

كان ذلك في صبيحة يومٍ شتويٍّ من شباط الماضي، عندما هاجم الجيش الأسديّ والميليشيات الموالية له الريف الشماليّ لحلب. وسط الصواريخ والقذائف ودويّ انفجاراتٍ هائلةٍ تُسمَعُ من أماكن بعيدة؛ نزح بعض السكان إلى الشمال نحو الحدود التركية، فيما اختار آخرون الذهاب إلى قرى ريف إدلب الشماليّ. كان أبو أيمن أحد معارف الحاج محمود في ريف إدلب فذهبت العائلة إليه وحطّت رحالها عنده ريثما يتبيّن الوضع. كبير الأسرة، الحاج أبو محمد، في الخامسة والثمانين. من شاهد فيلم عمر المختار كأنه شاهد أبو محمد. الفرق بين الاثنين هو أن المختار أطول قليلاً. يقول أبو محمد: «صارت القنابل والصواريخ تنزل على عندان كالمطر. خفنا على الأطفال الصغار. ما ذنبهم؟! لم نكن نريد مغادرة البلدة، لكن النسوة طلبنَ مني أن نرحل. سنرى ماذا سيحصل». يتكلم الحاج بهدوءٍ وصرامةٍ واعتزاز. جلس أبناؤه حوله؛ محمود في الخامسة والخمسين، ومصطفى في الأربعين، وحسن في الخامسة والثلاثين، ومعهم حفيده عبد الرحمن بن محمود. قال محمود: «في عندان كل شيء متوفر: الخبز المجاني، البطانيات والفرش، المازوت، الملاجئ... ماذا سنفعل هنا؟ الجلوس في غرفةٍ ننتظر الفرج؟! في البلدة موزّع خبزٍ يركن شاحنته الصغيرة ويتجمّع حوله الشباب يتبادلون الأحاديث على الرصيف. عندما تأتي الطائرة يركض الجميع إلى الملاجئ إلا هو فيبقى جالساً. بعد أن تُفرِغ الطائرة حمولتها يصرخ بأعلى صوته: نزلت القنبلة على بعد خمسين متراً من المكان الفلاني، أو على بُعد خمسمئة مترٍ من المسجد الفلاني. يعود الشباب ليتجمعوا من جديد. الذي ستأتي ساعته سيموت ولو كان في برجٍ مُشيّد».

في اليوم الثاني يغادر الشاب عبد الرحمن عائداً إلى عندان. يقول جده: «لا يستطيع البقاء هنا. إنه إمام مسجدٍ على صغر سنه، كما أنه يرابط على الجبهة باستمرار. إذا لم يدافع عن ديننا وثورتنا فمن سيدافع عنا؟». في اليوم الثالث يغادر حسن أيضاً، فهو أحد أفراد الشرطة الحرّة ويداوم على الحواجز، ومن الممكن أن يشارك في صدّ أيّ محاولةٍ لتسلل النظام إلى عندان، أو يمنع اللصوص من سرقة المنازل الخالية. يذهب مصطفى وزوجته وأولاده إلى قريةٍ أخرى من قرى إدلب حيث يعيش شقيقه، ويبقى الحاج أبو محمد مع النسوة والأولاد. في اليوم الخامس جاء جعفر إلى القرية، وهو حفيد أبو محمد وشقيق عبد الرحمن محمود. تفرح أمه كثيراً، ويعانقه جده بفخر. يغتسل ويبدل ثيابه. يضعون له الطعام. يسأله جده عن الأخبار فيجيب بهدوء: فلان استشهد وفلان أُصيب... جعفر في السابعة عشرة. كان مرابطاً على جبهة الطامورة: «حاول الجيش التسلل إلى تلة الطامورة. كنا تسعة مقاتلين، أصيب سبعةٌ منهم قائد المجموعة. بقينا ندافع ونحن مصابون إلى أن وصلت التعزيزات وفشل الهجوم». كان الحاج يستمع إلى حفيده بزهو، وكأنه هو الذي يقاتل. يقول أبو محمد: «تلة الطامورة قريبةٌ من عندان وقريبةٌ من نبّل والزهراء، ويحاول الجيش دائماً اقتحامها، لكنهم يلاقون مقاومةً عنيفةً من شبابنا». سألت أبو محمد: «لماذا أنتم على عداء مع نبّل والزهراء؟» أجاب: «نحن لسنا أعداء. كنا في السابق كالأخوة. أنا أعرف الكثيرين منهم وكنا نختلط بهم. عندما انطلقت الثورة كان قسمٌ منهم معها، بل خرجت قلةٌ منهم في مظاهراتنا، لكن الآخرين قمعوهم ووقفوا إلى جانب النظام. كنا نريد الحرية وكانوا يريدون مصلحتهم، وكانت مصلحتهم في مشاركة النظام القتل والقمع».

في أواخر أيار الماضي، قبيل حلول شهر رمضان المبارك، وكانت العائلة قد عادت إلى عندان؛ دخل عبد الرحمن محمود المسجد ليؤم المصلين عندما اخترقت الجدار قذيفةٌ هائلة. تحوّل جسد الشيخ الشابّ إلى مزقٍ من اللحم المشويّ انتشر في فناء المسجد. كانت أمه تبكي بحرقة، بينما كانت دموع أبيه تروي قصة حياته وهو طفلٌ مشاكس، ثم وهو مراهقٌ يشارك في المظاهرات، ثم وهو في حوالي العشرين إمام مسجدٍ ومقاتلٌ وشهيد.