بالتوازي مع تأسيس مجلة «كش ملك» الساخرة، في حزيران 2013، أنشأ القائمون عليها مجموعةً على الفايسبوك بالاسم نفسه، صارت بالتدريج منبراً حرّاً ينشر فيه الأعضاء ما يشاؤون من آراءٍ ومقترحاتٍ وحكاياتٍ من ذاكرة الاستبداد السوريّ. وكانت عين رئيس تحرير المجلة، الأديب الساخر خطيب بدلة، حاضرةً لالتقاط الطريف واللافت من هذه المرويات ونشرها في المجلة، ثم جمع بعضها في هذا الكتاب الذي صدر عن دار نون، في 2015.
وهكذا، شارك في هذا الكتاب ما يقرب من ثلاثين مؤلفاً، منهم رفيق شامي وهيثم حقي وهالة محمد وفاخر عاقل وبكر صدقي وفرج بيرقدار وغسان الجباعي وسمير سعيفان، بالإضافة إلى فريق تحرير المجلة وكتّابها وأصدقائها. وانتظمت الحكايات في محاور (فصولٍ) أثناء الإعداد، لتتوزّع على: بعثيات؛ حافظ الأسد؛ كوميديا الاستفتاء الرئاسيّ؛ باسل الأسد؛ صور حافظ الأسد وتماثيله؛ حواجز للتفتيش؛ حكاياتٌ عن استبداد المتطرّفين، أيام الثورة على نظام الاستبداد؛ شؤونٌ ثقافيةٌ وإعلامية؛ جناحٌ خاصٌّ بالأدباء المعتقلين؛ مذكرات معتقلٍ في الأمن الجويّ...
ودون قصدٍ من أحدٍ من الكتّاب، اندرجت مئات الحكايات المتفاوتة الحجم، والتي تقف وراءها تجارب مختلفةٌ ثقافياً وجغرافياً؛ في تشكيل صورةٍ شبه شاملةٍ عن حكم حافظ الأسد وابنه. هنا، تصنع الحكايات تاريخاً، ولا يقلّ أثرها عن دراسةٍ متكاملة، إن لم يتفوّق عليها بسلاسة السرد وتعدّد الأساليب والمفارقة الساخرة التي تدفع بقارئها إلى الانتقال المفاجئ من الابتسام إلى القهقهة، فالتأمل، وأحياناً إلى الأسى العميق.
وكمثالٍ عن حكايات الكتاب نختار ما رواه خطيب بدلة عن الحاج أحمد، وهو صاحب مقلعٍ للحجارة في منطقة أريحا، تعامل مع أحد زعماء الشبّيحة في الساحل، مورّداً له الحجارة الفخمة اللازمة لبناء قصره على تلةٍ مرتفعةٍ في قريته، في ثمانينات القرن الماضي. ولما زاد قلق الحاج أحمد من عدم تسديد «الشيخ»، كما يسمّي نفسه، لأثمان طلبياتٍ متكاثرةٍ من الحجارة، قرّر السفر لزيارة «الزبون» في المضافة الكبيرة التي خصّصها لأعمال التشبيح وعقد الصفقات. وبعد الغداء الفاخر والحلويات والفواكه، وبين شبّيحة صاحب الدار بأشكالهم المميّزة، من وجوهٍ جامدةٍ وعضلاتٍ فولاذيةٍ ووشومٍ ولحى؛ كان الحاج أحمد يبحث عن الصيغة الآمنة للمطالبة بحقّه دون أن يعثر عليها، حين عاجله «الشيخ» مشيراً إلى صورةٍ لحافظ الأسد تتصدّر المجلس، سائلاً: شو رأيك بصورة هالقائد العظيم يا حاج أحمد؟ كانت الصورة نسخةً من مئات ألوف النسخ التي وزّعها اتحاد الفلاحين، وفيها يظهر الأسد بالزيّ العربيّ والحطاطة والعقال، وتحتها كتبت عبارة «الفلاح الأول».
- صراحة؟ رائعة... أجاب الحاج أحمد خائفاً.
- هه. قلت لي صورة هالقائد العظيم رائعة؟ إي وشو كمان؟
- والله تحفة فنية رائعة... و... و... معبّرة. مثل الموناليزا.
- ليك... والله أنا مو سمعان بهاي «الليزا» اللي قلت عنها، بس أكيد شغلة كيّسة... يعني، على قولتك، قديش بتسوى صورة هالقائد العظيم؟
- والله بتسوى كتير يا شيخ... مئات الألوف... مو أقلّ من مليون ليرة. أجاب الحاجّ مرتبكاً، ولكن «الشيخ» عاجله:
- وأكتر... بس على كلّ حال ولا يهمّك. ثم التفت إلى أحد شبّيحته المتوفزين:
- تعال أنت ولاه كرّ... لفّ صورة القائد لعمّك الحجّي. وقال لآخر:
- تعال ولاه، الجحش الكبير أنت. هات الدفتر، شوف شقد حساب الحاج أحمد، اخصم عليه مليون ليرة حقّ صورة القائد حافظ الأسد. وإذا حسابه أكتر من مليون ادفع له الفرق، وإذا أقلّ من مليون سامحناه. يللا ابني يللا...
وعلى المقلب الآخر يروي رامي سويد حكاية شابٍّ من حلب، اسمه أحمد أيضاً، يحمل شهادةً في الهندسة، كان لا يزال في انتظار الوظيفة حين اندلعت الثورة وشارك في تظاهرات حيّه الفقير، فاعتقل وعُذِّب وخرج مكسور اليد والخاطر. وحين دخل الثوّار المسلحون المدينة انضمّ إليهم، ولأنه الجامعيّ الوحيد في الكتيبة تمّ تسليمه قناصة الدراغانوف.
يضع أحمد القناصة على كتفه الأيمن.. ينظر عبر المكبّرة... يشاهد عسكرياً من جيش النظام... يصوّب إلى رأسه.. يضغط الزناد... يتفجّر رأس العسكريّ... فيشغل أحمد سيجارةً... ويبكي.