ستكون قد جرت الانتخابات البرلمانية في سوريا حين ينشر هذا المقال، أو هكذا يفترض. لا نسعى هنا إلى محاولة تشريح شرعية أو عدم شرعية هذا "العرس الديموقراطيّ"، فهو أمرٌ لا يستحقّ عناء المحاولة، ويكفي تحوّل هذه المسرحية إلى مادةٍ دائمةٍ لسخرية السوريين -بمن فيهم الموالون للنظام- كدليلٍ على أنّ هذه الانتخابات لا تقدّم ولا تؤخّر. الغاية الأولى منها هي، كما يبدو، إرسال رسالةٍ داخليةٍ أولاً بأنّ نظام بشار الأسد مستقرٌّ، يحترم تواريخه الداخلية، وقادرٌ على تنظيم انتخاباتٍ برلمانيةٍ في المناطق التي يسيطر عليها، خصوصاً بعد أن أعاد التدخل الروسيّ -الذي بدأت مفاعليه تتلاشى مع الانسحاب الجزئيّ- بعض الرمق إلى قوّة النظام العسكرية. ثمّة رسالةٌ خارجيةٌ أيضاً، والواقع أنّ كلّ ما يفعله النظام منذ بدء الثورة يتضمّن رسائل للخارج الذي يتصدّر اهتمامات الأسد، كمدخلٍ لاستعادة هيمنته على البلاد، ورغم كلّ ادعاءاته، يريد النظام أن يوحي بقدرته على إعادة تأسيس "هيكليةٍ شرعيةٍ" تستجيب لاشتراطات المجتمع الدوليّ في خريطة الطريق التي وضعها مؤتمر جنيف1. بمعنى أنّه يحاول الاستجابة بطريقته لمطالب تتعلق أساساً برحيله عبر تلبية مطالب جزئيةٍ كبرلمان "أمر واقع" يكون مسؤولاً عن منح الشرعية لحكومةٍ موسّعةٍ -أو حكومة وحدةٍ مع عناصر مختارةٍ من المعارضة المقبولة- كما أنّه سيتولى بالطبع وضع دستورٍ جديد، بل والإشراف على إعادة الإعمار.
يبدو واضحاً أنّ الأسد يحاول تلبية اشتراطات جنيف -الذي لم يعترف به يوماً- بالمقلوب، ومع بتر الغرض الرئيسيّ منه، وهو تحقيق انتقالٍ سياسيٍّ ينهي نظامه عملياً، وهو ما ظهر بشكلٍ فاضحٍ من خلال ردود فعل رئيس وفده العصابية في الجولة الأخيرة من المفاوضات. الانتخابات ليست كلّ وصفة الأسد المتكرّرة منذ خمس سنوات، هناك أيضاً محاولةٌ لإعادة المشهد إلى ما قبل الهدنة -أو وقف العدائيات- لعكس تيارٍ تراجع بدأت ملامحه بالظهور بعد الانسحاب الروسيّ الجزئيّ. وقد صرّح رئيس وزراء النظام لوسائل إعلامٍ روسية -وليست سورية، للمفارقة- أنّ حملةً جوّيةً جديدةً روسية - سورية ستنطلق لإعادة السيطرة على حلب، أي إعادة الزخم العسكريّ الروسيّ إلى سابق عهده. يبدو هذا أشبه بمسارٍ منسّقٍ لإعادة منطق التفاوض تحت البراميل والقصف العشوائيّ الذي أربكته الهدنة قليلاً، وهو -وهذا أمرٌ لا يدعو إلى أيّ استغرابٍ في الواقع- يحدث متزامناً مع تقدّمٍ ميدانيٍّ لقوّات المعارضة على حساب داعش في ريف حلب. تخدم الانتخابات هنا الضلع الثاني من متلازمة فشلٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ يصرّ النظام على ممارستها منذ بدء الثورة. ومع أنّه يجب الاعتراف بأن هذه الآلية حققت حتى الآن الجزء المتعلق ببقاء النظام؛ استناداً إلى إدراكه بأن الحلّ السياسيّ هو أصلاً استثمارٌ دوليٌّ لعدم التحرك ضده عسكرياً، إلا أنّها تتوقف عند حدٍّ لا يتيح للأسد استعادة "الشرعية" الكافية لترخيص وجوده الدائم الذي كان يفترض أنه قائمٌ بأمانٍ قبل الثورة. يظلّ هنا أنّ ثمة نمطاً ذهنياً أساسياً يطبع كلّ محاولات النظام لتظهير ما يريد تصويرها على أنها "شرعيته الدستورية"، وهو استخدام أشخاصٍ أو "كركتراتٍ" مستخرجةٍ حرفياً من كتب التربية القومية البائسة التي طالما مثلت تعذيباً جماعيا لأدمغة خمسة أجيال من السوريين، ينطبق هذا الأمر على ضباطه، كما على سياسييه ومرشحيه البرلمانيين. إنّه فعلياً أسير عقليةٍ لا يمكنها إنتاج صورةٍ مغايرةٍ له، مهما تبدّلت الظروف حوله، ولعل هذه إحدى مميزات ذهنية "الممانعة" التي لا تنتج سوى الثبات وانعدام الأفق. في هذه الجولة من الانتخابات عرض على السوريين -من بقي منهم في سوريا على الأقل- نماذج مخبريةً لحصيلة خمس سنواتٍ من البروباغندا التائهة، حتى أنّ السوريين لم ينتظروا إعلان الأسماء ليطلقوا موجة السخرية اللاذعة بناءً على أسماء مرشحي الانتخابات السابقة. ولم يخب الظن في الواقع، فقد تكرّرت لائحة "مشاهير مجلس الشعب" حرفياً مع بعض الإضافات المرحلية التي تحاكي الصورة الخلاسية للضابط "النمر الفيلسوف". حتى أن نجمة دورتَي الانتخابات "أم البيارق" ظهرت بزيٍّ عسكريّ، والظاهر أن هذه ليست سوى حركةٍ "تعبويةٍ" كان لا بدّ منها لمواجهة زحف مرشحاتٍ شاباتٍ جميلاتٍ تمّ الزجّ بهن كما يبدو لإعطاء صورةٍ "علمانيةٍ" للمشهد الديموقراطيّ.
الانتخابات، رغم مستوى السخرية المرتفع الذي قوبلت به، هي جزءٌ من عملية تحشيدٍ فاشلةٍ لإنشاء أو ترميم ميليشيا شبّيحةٍ تدعى "مجلس الشعب".