تقوم علاقات الدول والجماعات على المصالح المتبادلة، دون نسيان دور العقائد والأيديولوجيات في تمتين أو التقليل من حرارة تلك العلاقات. لكن ما يميّز العلاقات السورية الإيرانية الروسية، سواء أكانت ثنائيةً أم بشكلٍ جماعيّ، هو التشابك الكبير في بنى وتركيبة أنظمة هذه الدول، إلى درجةٍ تكاد تبدو معها نسخاً مشوّهةً عن بعضها، أو طبعاتٍ مختلفةً في بعض التفاصيل لموضوعٍ واحد.
منذ أواسط الستينات، ومع تزايد نفوذ اللجنة العسكرية في الفرع السوريّ لحزب البعث، وتركيبتها الطائفية؛ كان واضحاً بروز اتجاهٍ جديدٍ في الحزب يعتمد على تكريس مفهوم الزعامة أو القيادة ذات البعد الدينيّ الطائفيّ، المستمدّ من دور الإمام لدى الطوائف الباطنية التي تجعل منه شخصاً معصوماً تجب طاعته المطلقة دون مساءلة، إذ تكتسب قراراته الفردية صفة القداسة والإلهام، فهو المؤتمن على شؤون رعيته العارف بمصالحها. وكثيراً ما نجد من ألقابه الملهم، والأمين، إضافةً إلى صفة القائد. وقد كُرّست هذه السمة أخيراً في سوريا، في تسعينات القرن الماضي، عبر شعار: قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد. وأكثر من يمكن أن يقوم بهذه المهمة هم الذين تشرّبوا تلك الأفكار أصلاً، أي أبناء الطائفة العلوية والمهمّشون من الطوائف الأخرى، فهم جند الإمام الأوفياء وحرّاس تطبيق سياساته ليل نهار. فكانت أجهزة المخابرات، ذات التركيبة الطائفية الواضحة والمعادية للغير، تعتبر أن من يجرؤ على معارضة الزعيم يرتكب إثماً يوجب عقاباً شديداً، لأنه يعارض الذي لا يخطئ. وكثيراً ما لمس السوريون شدّة الحقد التي يتصرّف بها عناصر الأمن من الطائفة تجاه معارضي الزعيم، وشراستهم التي لا تُفسّر إلا بكونها دفاعاً عن الطاغية-المقدس. فهو ليس رئيساً... إنه الإمام.
أما في إيران، وبعد انتصار الثورة الشعبية عام 1979، وسيطرة رجل الدين الشيعيّ آية الله الخميني على مقاليد السلطة، فقد لجأ أولاً إلى تصفية جميع التيارات التي شاركت في الثورة، ملغياً ومن البداية أيّ تشاركٍ مع تياراتٍ لا تخضع لذات التركيبة والعقلية: معصومية الإمام/القائد الذي يستمدّ مشروعيته وسلطته لا من الشعب/الرعية، بل من الانتماء إلى سلسلة الأئمة الذين هم أولياء الله. فالإمام هو الذي كرّسه نائباً له ليسيّر أمور الرعية التي ليس عليها سوى الطاعة وإلا الكفر. وعقاب الكفر واضح، إنه القتل. فثنائية الإمام/الرعية تخلق جيلاً تنظمه علاقة الانصياع واللاتفكير. إنه قتل العقل والحرّية بوسائل دينيةٍ وأخرى أرضيةٍ تحمي إشراقات وإلهامات الإمام هي قوى العسس؛ المخابرات.
أما روسيا، الدولة العريقة في تقاليدها الإمبراطورية التي عادت حديثاً إلى الظهور بعد تفكك الدولة الاشتراكية "العظمى" عام 1991، التي كانت "حلم" الملايين، حيث يسود العدل والحرية؛ فقد كانت تُحكم عبر الحزب الشيوعيّ لأكثر من سبعين سنة. وهو الحزب الواحد، مالك الحقيقة والمعرفة، الذي أخذ على عاتقه نقل الوعي إلى جماهيره "غير المدركة" لمصالحها وحقوقها. فمطالبة الإنسان بأبسط الحقوق خروجٌ عما هو مطلوب منه، عن طاعة "ناقل الوعي الثوريّ"، وبالتالي يجب التعامل معه بالطرق الأكثر "ثورية". كانت تركيبة الحزب الطليعيّ مستلبةً لصالح الجهاز الأعلى فيه؛ اللجنة المركزية. وهذه تكِل المهمّة إلى الشخص الأكثر نقاءً وثوريةً ودعماً من المخابرات؛ الأمين العام. وهو، كذلك، لا يخطئ أبداً. ومن يخالفه الرأي قد حاد وانحرف عن جادة الثورة، ولا بدّ من إعادته إلى الحظيرة وإلا تبخيره. وآلت التركيبة السلطوية السابقة، بعد عمليات التفكك، إلى الشخصيات الأكثر فساداً وانبهاراً بالغرب وقيمه، المولعة بتعاليم جهاز الأمين العام، إن لم تكن عناصر فيه. بعد أن تكشّف لها فجأةً خطأ تلك النظرية والمرحلة السابقة، وأدانتها كاملةً عبر عملية تأهيلٍ لقيادة المرحلة المقبلة، ولكن بالعقلية نفسها؛ الزعيم/الدكتاتور الذي لا يخطئ. ولذلك حافظ الورثة على الأجهزة المخابراتية، لكن مع جشعٍ هائلٍ للنهب والاستحواذ على الثروات، فكانت النتيجة نظاماً هو النسخة الأكثر عداءً للشعوب، مستعيداً الزمن الإمبراطوريّ.
وما نشهده اليوم من دعمٍ وتشابكٍ بين هذه الأنظمة الثلاثة وداعش ضد ثورة الشعب السوريّ يجسّد تماماً العلاقة بين الأمين والإمام والأمين العام... ونظيرهم الخليفة.