لم يعد خافياً على أحدٍ دخول إيران "الثورة" بشكلٍ علنيٍّ ومباشرٍ في الحرب على الشعب السوريّ، وخلفها النظام الطائفيّ، لأهدافٍ إستراتيجيةٍ قوميةٍ ومذهبية. مسخّرةً الجزء الكبير من إمكانيات الدولة الإيرانية الكبيرة لخدمة مشاريعها التوسّعية وفق روح "ثورتها" التي اعتمدت، منذ أيامها الأولى، فكرة تصدير العقيدة باسم تصدير الثورة، والتي يُقصد بها نشر ثقافة التشيّع وفق الرؤية الفارسيّة، والتي من أبجدياتها كره الآخر وتفتيت المجتمعات العربية ذات التركيبة السكانية المتنوّعة قومياً ومذهبياً، والتي تعاني من هشاشةٍ في تلاحمها ناتجةٍ عن عسف السلطات وعدائها للحرّيات إلى درجةٍ أوصلت مجتمعاتها إلى حالة ضعفٍ كبيرةٍ تجعلها عرضةً للانهيار عند أوّل صدمة، بعد أن دمّرت الحياة السياسية فيها.
تعود علاقات النظام السوريّ الطائفيّ مع نظام الوليّ الفقيه إلى أوائل ثمانينات القرن الماضي، عندما وقف حافظ الأسد إلى جانب إيران في الحرب ضد العراق. لتتطوّر هذه العلاقة، ذات الجذور الطائفية والمصلحية، وصولاً إلى يومنا عندما يجري ابتلاع الوطن السوريّ بطوائفه كلها وأوّلها الطائفة العلوية، رغم ظاهرية قيادتها للأعمال الإجرامية ضد أكثرية الشعب السوريّ وهم العرب السنّة. وما يدور اليوم من عملياتٍ عسكريةٍ في سورية عموماً، وفي الريف الشماليّ لحلب خصوصاً، ليس أكثر من تجلٍّ وتعبيرٍ عن تلك العقلية التدميرية في صلب "الثورة" الإيرانية. فقد حُشدت قوّاتٌ من بلدانٍ مختلفةٍ، تحت إشراف الحرس الثوريّ (القوّة التنفيذية لنشر أفكار "الثورة")، لا يجمعهم سوى التمذهب والعدائية تجاه المختلفين عنهم، يدعمهم بالطبع الطيران الروسيّ، تحت ذريعة فكّ الحصار عن بلدتين لم تبقَ لهما هويةٌ سوى أنهما شيعيّتان، ليقوموا بعملية تهجيرٍ كاملةٍ لأكثر من خمس عشرة قريةً وبلدةً، وتهجيرٍ لكامل الريف الشماليّ بدءاً من جوار مدينة حلب وحتى قرب الحدود التركية. فالتزاوج الروسيّ الإيرانيّ عماده العداء للعرب السنّة وفق قواعد اتفاقٍ وصراع، ونزع الهويات الوطنية عن مكوّنات السوريين هو أولى الخطوات التي تسهّل تماماً تحقيق أهداف "الثورة" المذهبية وتروي ظمأ الروس إلى حماية الأقليات.
لا تشكّل الأقليات القومية والمذهبية المختلفة في سورية أكثر من 35% من سكانها، ولا تصل نسبة السوريين الشيعة إلى أكثر من 1.5%، متوزّعين في أماكن مختلفةٍ على الجغرافية، لا يمكنها بأيّ شكلٍ أن تكون لوحدها قاعدةً لنشر وتسييد المذهب والأفكار "الثورية". ومن هنا تتضح نوايا سلطة الملالي تجاه أبناء الطوائف الأخرى، وأولها الطائفة العلوية التي ما كانت يوماً على تقاربٍ مذهبيٍّ معها وإنما جمعتهما سياسة الأسد الطائفية التي تلقفها الملالي. الأمر الذي يهدّد مصير الطائفة العلوية أولاً بفرض التشيّع عليها وإخضاعها لدورات "استتابةٍ" لا تختلف كثيراً عما تقوم به دولة "الخلافة" في العراق والشام تجاه أبناء الطائفة السنّية، لأن الدولتين تعتمدان أساساً "الجماعة" معياراً للموقف. أما في ما يخصّ المسيحيين الذين تتذرّع روسيا القيصر بحمايتهم بذرائع مختلفةٍ وغايةٍ واحدةٍ هي الاشتراك مع الإيرانيّ في حرب التطهير والتهجير، وتحويل سورية إلى بلد أقلياتٍ تحتمي بدولٍ خارجية؛ فكلنا نرى مصير وحياة المسيحيين في إيران، والقيود الكبيرة المفروضة عليهم، والتي تشبه كثيراً قيود وموانع دولة البغدادي، وصولاً إلى تهجير غالبيتهم نحو البلدان الأوروبية والأمريكية.
يؤسّس السلوك اليوميّ للإيرانيين والروس في سورية، المحمّل بالموت لعموم السوريين وخاصّةً السنّة منهم، البيئة المناسبة لليأس ولظهور الأفكار المتشدّدة على الطرف الآخر، بعد قتل روح التمرّد التي دفعت السوريين إلى الثورة على أكثر الأنظمة استبداداً، السلوك الذي يمهد للابتلاع الكامل لهوية وجغرافية السوريين. وليست من باب السخرية صرخة أحد الرجال في قريةٍ من الريف الشماليّ منادياً الموتى: «نيالكم ما عبتشوفوا الصواريخ الروسية ولا العمامات الإيرانية».
إن التنوّع الدينيّ والقوميّ في سورية يمكن أن يتطوّر ويلعب دوراً إيجابياً وحافزاً للتقدّم والمنافسة في إطار الأهداف التي نادى واستشهد من أجلها مئات الألوف واعتقل في سبيلها الكثير، وهي الحرّية والكرامة اللتان تكفلان تماماً الاختلاف بكلّ أشكاله. وتتطلب مصلحتنا منّا جميعاً وعي المشروع الإيرانيّ وداعمه الروسيّ، والذي لم يعد دور النظام فيه أكثر من الغطاء أو الممرّ لتدميرنا جميعنا وابتلاعنا في نموذجٍ قهريٍّ يصبح من الصعب تجاوزه.
لم يعد ترفاً أو استشرافاً إن قلنا إن المشروع الإيرانيّ صار أكبر من الأسد، وإنه يستهدف الوطن بكلّ طوائفه، ولكن يبقى أن الخلاص من النظام هو السبيل الوحيد والمقدّمة الضرورية لنيل حرية البلاد والعباد.