في أيامه الأولى في دير الزور عقد تنظيم الدولة الإسلامية اجتماعاً لقادة الكتائب في المدينة. وحين كانا متوجّهَين إلى الاجتماع سأل أحد عناصر الجيش الحرّ قائد كتيبته: "شكون يريدون هذول من العالم؟"، فقال القائد بطريقةٍ مواربة: "يريدون يفتحون روما"، فردّ العنصر: "أي روما يا حجّي! هذول ما يعرفون يفتحون علبة ساردين".
يكرّر الأهالي العديد من القصص المشابهة كثيراً في أحاديثهم. يريدون منها، عدا الانتقاص من الخصم والتقليل من شأنه، إبراز ذكاء صاحب المزحة وسرعة بديهته ودقة تلميحاته. ويسميها البعض "عَبَازات" –بمعنى شغب- أو اسمٍ قريبٍ من ذلك، كنوع من الاعتراض عليها، ويتأثر بها البعض الآخر حتى تصبح نمطاً حياتياً يعيشه حتى آخر العمر. وفوق ذلك (أو تحته) يأتي حفظ هذه النهفات/القفشات كأحد أهمّ مكوّنات الذاكرة الجماعية للأهالي، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة الشفوية التي تحوي أيضاً الكثير من المآثر والشعر والأمثال وغيرها.
يرتبط المزاح في مدينة دير الزور خاصّةً بالأصوات العالية والتشهير والشتم والعنف. ويعدّ الضرب بقصد المزاح أمراً مألوفاً إلى درجة اشتراط الكثير من الشباب الأصغر سناً استثناءه من المزاح عند عقد صداقاتٍ جديدة. وقد تطوّر المزاح خلال الثورة في أكثر من اتجاه، كان أخطرها استعمال الأصدقاء السلاح الناريّ في ما بينهم، ما أدّى إلى حوادث مؤسفةٍ في الفترة التي سيطر فيها الجيش الحرّ على المدينة. وقد يأخذ المزاح شكل السخرية من الذات، كأن يشتم الشخص نفسه في بداية حديثه تمهيداً لممازحة الآخرين. كما يخلط الكثيرون في المزاح بين الشعبيّ والرسميّ (والشخصيّ والعامّ)، ففي إحدى المعارك التي خاضها الحرّ في المدينة انسحبت كتيبةٌ من موقعها أثناء المعركة فخاطب قائد القطاع عن طريق القبضة (جهاز الاتصال) صديقه مسؤول الكتيبة: "ليش انسحبت من دون أوامر؟" فردّ المسؤول: "الدبابة قطعت علينا الكلاش".
وقد توقف الكثير من أنواع المزاح منذ سيطرة التنظيم على دير الزور ولكن في العلن، بينما استمرّ بالسرّ أو بأشكالٍ جديدةٍ تلاءمت مع قسوة ومزاجية قادة التنظيم ومحاولاتهم تغيير حياة الأهالي، هذه المحاولات التي وصلت إلى اعتراضهم على طريقة الكلام المحلية ومحاولة تغييرها بالقوّة في بعض الأحيان. وفي إحدى المرّات التي اجتمع فيها الناس في البوكمال لحضور تنفيذ حكمٍ ما صرخ شابٌّ بقصد المزاح: "طيارة... طيارة"، لتعمّ الفوضى الحشدَ ويهرب عناصر التنظيم قبل الأهالي، حتى لجأ قادته بعد مدّةٍ إلى تحديد عقوبة "من يصيح بكلمة طيارة وسط الحشد المدعوّ لحضور الأحكام"، لكثرة ما استعملت تلك المزحة لمحاولة عرقلة العناصر عن التنفيذ. وفي المقابل يلجأ الكثيرون إلى استلهام الخصم في المزاح، كاستعمال تعبير "يا شيخ"، أو كما في القصّة التي تقول إن مصرياً من التنظيم أمسك شاباً معه علبة حمراء طويلة فسأله بلهجته: "فين الحشيش؟" (يعتقد مهاجرو التنظيم أن مدخني الحمراء حشاشون) فردّ الشاب: "والله معرفش يفندم"!
وينتشر في الأوساط الشعبية العديد من نوادر المعتقلين في سجون التنظيم الأمنية ومزاحهم بغرض التسلية، كنوعٍ من أدب السجون الشفويّ. ومن أكثر النوادر انتشاراً، حتى أصبحت لدى بعض المعتقلين نوعاً من البروتوكول الذي يستقبَل به المعتقل الجديد، الاستفسار منه عن موقف صدام حسين إذا كان ما زال بجانب المعارضة السورية؟ أو الاستفسار عن قبضة حافظ الأسد الأمنية؟ أو إن كان أصدر عفواً عن المساجين؟ وترك المعتقل الجديد لفترةٍ من الوقت يضرب أخماساً بأسداس، محاولاً استيعاب ظروف سجنه ومعرفة تبعية الجهة التي اعتقل لديها وتقدير المدة التي قضاها هؤلاء منقطعين عن العالم الخارجيّ، قبل إخباره بأمر المزحة.
وفي لحظةٍ سجّلتها كاميرا إعلاميّي التنظيم يقف أحد عناصره المحليين يحمل ساطوراً بيده بجانب الأمير المحليّ أبو دجانة الزر، ويثبّت العنصر حدقتي عينيه على نصل الساطور فيبدو أحول بشكلٍ ساخر، ويقول بأسلوبٍ مسرحيٍّ يقلد فيه لهجة أهل الريف: "والله ما خرجنا إلا لنصرة هذا الدين". تشي مزحة العنصر بتسلل الثقافة الشعبية إلى حياة أولئك الذين حاولوا أن يكونوا خارج التاريخ بصرامتهم التي يصدّرونها عن أنفسهم. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى تعبّر عن مدى الاستهانة بالشعارات التي يرفعونها، خاصّةً أن المزحة تمسّ أحد أهمّ تلك الشعارات. وفي آخر المقطع يظهر العنصر ذاته يلهو ضاحكاً بشعر مهاجرٍ غربيٍّ وقف أمام الكاميرا للحديث.
فهل سيستطيع الأهالي بالمزاح تجاوز عتبة الخوف من التنظيم وإسقاط ما تبقى من الأوثان التي بناها؟