التسـاء الفراتـسـية البحتـسـة
توحي لهجة أهالي مدينة دير الزور بالاستعلاء (شوفة الحال)، وبأثرٍ ما من عهد البداوة، بسبب استعمال النبرة العالية والخشنة أثناء الكلام. الأمر الذي أزعج بعض المهاجرين العرب في بداية سيطرة تنظيم الدولة على المدينة؛ فقد أكّد أكثر من شخصٍ اعتقل لديهم وقتها أنّ أولئك المهاجرين استعملوا الضرب لدفع المعتقلين إلى التخلي عن تلك اللهجة.
يعتزّ أهالي دير الزور، وخاصّةً كبار السنّ، بلهجتهم التي يرون أنها أقرب لهجةٍ في الوطن العربيّ إلى العربية الفصحى. لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى الكثير من الشباب، وخصوصاً في المدينة. فمنذ وقتٍ طويلٍ نسبياً لم تعد تعجبهم هذه اللهجة الخشنة الغريبة عن الوسط السوريّ، وحتى الوسط المحليّ للمنطقة الشرقية. لكنهم لم يُغفلوا الإشارة إلى سلامة مخارج الحروف لديهم، وولع أهل مدينتهم بالفصحى.
تشبه لهجة المنطقة الشرقية لهجات أهالي ريف حلب وحماة ودرعا. وتنفرد لهجة أهالي مدينة الدير، وبنسبةٍ أقلّ الميادين والبوكمال، باستعمال صيغٍ نادرةٍ تكاد تكون متروكةً. وأشهرها استعمال "فَعلتُ" للدلالة على المتكلم، بإشباع التاء بضمّةٍ تقترب من الواو، ما يسبّب الكثير من الالتباس عند الاختلاط بالوسط السوريّ الذي يستعمل "فعلتو" باللفظ ذاته للدلالة على جماعة المخاطبين. وقد ظهرت أصواتٌ في وقتٍ سابقٍ، وجدت في جريدة الفرات المحلية منبراً تدعو من خلاله إلى التخلي عن استعمال هذه الصيغة، التي تُزادُ، على لسان الكثيرين، إلى التاء في آخرها سينٌ لتصبح "فعلتسو". كما عبّرت هذه الرغبة عن ذاتها عملياً في كليّات المدينة، حيث تخلى العديد من الطلبة -خاصّةً الطالبات- عن الكثير من الصيغ المحلية. وللخروج من مأزق الاستهجان، ادّعى بعض هؤلاء أنهم من سكّان دمشق، أو يتحدّرون منها لجهة الأم، لتبرير استعمال اللهجة الفضفاضة (البيضاء) القريبة من لهجة الشوام، والتي ساعد على انتشارها ورواجها استخدامها في المسلسلات والبرامج التلفزيونية.
كان لاختلاط أهالي المنطقة الشرقية عامةً، وديرالزور خاصّةً، بأهالي المناطق السورية الأخرى (في الخدمة الإلزامية والدراسة. وبدرجةٍ أقلّ التجارة والعمل والمصاهرة والسياحة) أن بيّن لهم الالتباس الحاصل من استعمال لهجتهم، أو الغبن والاستغلال الذي قد يقعون ضحيته، أو النظرة الدونية والمبتسرة التي قد يُنظر إليهم من خلالها. مما دفع ويدفع الكثيرين إلى التخلي عنها، وبالمقابل يتمسّك البعض بها بعنادٍ وإغراق. لكن جميعهم يكادون يتفقون على أنهم يفهمون جميع السوريين، لكن لا أحد يفهمهم!
أسهمت العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية، أثناء الثورة، في ظهور نزعتين لدى الديريين في هذا المجال؛ إذ لوحظ تزايدٌ في التمسّك باللهجة المحلية، بل المغرقة في محليتها، ومحاولة إحياء مفرداتٍ شبه منسيةٍ منها، الأمر الذي كُرّست له مساحةٌ في بعض البرامج على قناة دير الزور الفضائية وبعض الصفحات الثورية الساخرة على الإنترنت. وقد ظهر الاعتزاز باللهجة، والتشديد على التمسّك بها، والسخرية من الذين يهجرونها، تزامناً مع محاولة تأصيل مفرداتها عن طريق ردّ الغريب منها إلى الفصحى. أما النزعة الثانية فقد كانت التخلي عن اللهجة، في معرض محاولة الاندماج في المحيط السوريّ الذي يراها لهجةً عراقيةً. وكذلك تظهر السخرية لدى أصحاب هذه النزعة، لكن من المفردات الغريبة للهجة ومن طبيعتها الخشنة.
يثبت الواقع وجود هوّةٍ تتسع وتضيق بحسب الظروف والأشخاص بين الريف والمدينة، بالتوازي مع ظهور ما تمكن تسميته بـ"الحاراتية" في بعض الأحيان. وتصبح اللهجة واستعمالها، هنا، معياراً للانتماء والاختلاف والفرز والتعامل وفق الأحكام الجاهزة والاعتقادات الراسخة. ليبيّن كلّ ذلك إلى أيّ مدىً فشلت سياسات الدمج الرسمية، خاصّةً بعد سيطرة فكرة البعثيّ (بدرجةٍ أقلّ: العربيّ) مقابل الآخر "الغريب" لعقودٍ طويلةٍ، لتحلّ محلها اليوم فكرة الأخ (بدرجةٍ أقلّ: المسلم) مقابل الآخر، الغريب أيضاً. ليبقى الآخر حاملاً همّ الاندماج، مزيلاً ما يعتقده عثرةً من طريقه، حتى لو عرف أنّ اللغة نفسها، ومنذ وقتٍ طويلٍ، لم تعد تقف في وجه ذلك.