العائلات السورية تلهث بحثاً عن إجابات حول مصير أبنائها.. بينما تغلق الحكومة ملفات الاعتقال بهدوء

AFP

عبد الستار إبراهيم - عمار حمو - باريت ليموجيه
25 تموز عن موقع The Middle East Eye
ترجمة مأمون حلبي

كان إسلام، شقيق عبد الرحمن الدباس، يرتدي كنزة تحمل كلمة واحدة (حرية) في آخر مرة تقابلا فيها عام 2012، ثم فصلت بينهما القضبان الحديدية لإحدى زنزانات سجن صيدنايا.

سُمِح لعبد الرحمن ووالدته بزيارة مدتها دقيقتان لإسلام، الذي اعتقلته قوات الأمن في شوارع داريا ذلك العام. يتذكر عبد الرحمن كيف كان إسلام يبدو ضعيفاً ونحيلاً بشكل فظيع، وكانت تلك آخر مرة يرى فيها عبد الرحمن شقيقه أو يتواصل معه، لكن الأسبوع الماضي اكتشفت العائلة أخيراً أن إسلام كان واحداً من بين عشرات الآلاف الذين ماتوا في مراكز اعتقال تديرها الحكومة منذ عام 2011.

حصل هذا الاكتشاف بعد أن قامت إحدى بنات عمه بزيارة مكتب السجل المدني في داريا الأسبوع الماضي، فتأكدت أسوأ مخاوف العائلة. يقول عبد الرحمن:" لم تستطع ابنة عمي أن تتعامل مع هذا الموقف، غادرت المكتب دون أن تأخذ معها ورقة السجل المدني: كانت صدمتها بالغة الشدة".

تكررت مشاهد مماثلة في كل أنحاء سوريا منذ شهر أيار، عندما بدأت الحكومة تغلق بحذر ملفات السجل المدني التي تخصّ آلاف المعتقلين المقبوض عليهم أو المختفين على مدار سنوات الثورة والحرب الأهلية، فاكتشفت بعض العائلات أخباراً عن أقرباء لها أثناء زيارات روتينية لمديريات السجل المدني، أو عن طريق تتبع اتصالات هاتفية غير متوقعة من لجان المصالحة المحلية. ومع انتشار هذه الأخبار، ملأت جموع الناس مكاتب التوثيق العامة، وأخذت طوابير المنتظرين تتضخم لساعات.

تؤشر اللقاءات مع عائلات المختفين، وجماعات حقوق الإنسان، والخبراء القانونيين إلى أن الحكومة تقوم حالياً بإعادة تنظيم لبيروقراطية سجلات الاعتقال المعقدة، إضافة إلى الوثائق التي قد تترك المسؤولين ذات يوم عرضة لدعاوى قانونية دولية.

ماذا فعلوا به؟

كان تقريرٌ صادر، في منتصف تموز الحالي، عن إحدى جماعات حقوق الإنسان السورية، هو أول من ادعى أن عائلات سورية بدأت تعلم بموت أحبائها المعتقلين صدفة، مع مئات من الحالات المؤكدة في دمشق وحمص واللاذقية ومعضمية الشام وحماة والحكسة. يقول فاضل عبد الغني، رئيس الشبكة السورية لمراقبة حقوق الإنسان: "في بداية تحقيقاتنا، لم نصدق الأخبار. كانت العائلات تعلم بمحض الصدفة أثناء ذهابها للقيام باستخراج أوراق عادية، حيث يبلغهم الموظف أن قريبهم تم تسجيله كشخص متوفى في ملفاتهم". ويتابع عبد الغني قائلاً، إن أعداد الموتى الذين تم التعرف إليهم ضمن قوائم السجلات المدنية تزداد كل يوم، وإن الشبكة السورية قد أكدت، حتى الآن، قرابة 350 حالة تم التعرف إليها من قبل الأقرباء.

يبدو أنه لا يوجد إجراء ثابت لإبلاغ العائلات: فمئات العائلات علمت بموت أبنائها بالصدفة أثناء زيارات روتينية إلى السجلات المدنية لتقديم ثبوتيات تخص المفقودين، وبعض العائلات الأخرى تلقت اتصالات هاتفية من لجان المصالحة المحلية تفيد أن أحد أفراد العائلة قد توفي، وتوجههم لتغيير وضع سجلهم المدني في المكاتب المحلية. وقد نوه تقرير الشبكة السورية إلى أنه لم يحدث أن تلقت أيّ عائلة رفاة أحدٍ من المفقودين، وهو ادعاء تأكده عدة مصادر تحدثت إلينا. وفي كثير من الحالات، كان سبب الوفاة المكتوب على الشهادات هو" تَوَقف القلب"

إضافة إلى ال350 حالة المؤكدة من قبل الشبكة السورية، توجد أيضاً أعداد أكبر من الحالات غير المؤكدة في عدة مدن أخرى. فأثناء الأسبوع الأخير من شهر حزيران، 30 عائلة فلسطينية سورية من مخيمات حمص وحماة -التي تتبع ثبوتياتها إدارة السلطة العامة للاجئين العرب الفلسطينيين في دمشق- تلقت اتصالات هاتفية من الوكالة تشير عليهم الذهاب فوراً إلى مكتب السجل المدني، وتغيير وضعية أبنائهم من أحياء إلى أموات.

وقيل أيضاً، إن أسماء 600 راحل ظهرت في السجل المدني في الحكسة، إضافة إلى 60 اسماً في حماة. ثم أصدر موظفون في 28 حزيران قائمة مكتوبة بخط اليد بأسماء من معضمية الشام -أشخاص معتقلين أو مختفين قسرياً من قبل قوات الأمن السورية في السنوات الأخيرة، وبعضهم منذ 2013- تعلن وفاتهم. كانت القائمة مكتوبة على ورق في أعلاه ختم وزارة الداخلية. ظهرت أسماء 300 شخص في الملف الأصلي، مع ذلك أكد موظفو السجل المدني أسماء 170 فردأ فقط ماتوا في مراكز اعتقال تديرها الحكومة.

حتى الآن ليس ممكناً معرفة المدى الكلي للتغييرات الحكومية الكبيرة على السجل المدني، لكن تتواصل عملية إغلاق الملفات، ويقال إنه أجرت لجنة المصالحة في مدينة كناكر 25 اتصالاً هاتفياً الأسبوع الماضي مع 25 عائلة لديهم معتقلين في سجن صيدنايا.

قال لنا ليث مطر، اسمٌ مستعار لناشط في مجال التوثيق العام، إن الحالات الموثقة حتى الآن تتعلق فقط "بأولئك الناس الذين يقرّ النظام أنه يعرف شيئاً ما عنهم". وبالنسبة لمعظم العائلات، معرفتهم بموت أحبائهم هي أول الأخبار التي سمعوها عنهم بعد سنوات، مع ذلك هناك آخرون ما زالوا ينتظرون.

محمد، ابن وفاء الأيوبي البالغ من العمر 21 عاماً، غادر منزل أسرته في دمشق في إحدى صباحات عام 2014، ولم يعد بعد ذلك. وبعد 5 أيام من البحث المحموم من قبل أفراد الأسرة، أغارت قوات الأمن على المنزل -ومحمد خلفهم- وفتشته بحثاً عن دليل إدانة مفترض. ذكرى وجهه، الذي لا يكاد يُميز من أثر التعذيب، لا تفارق خيال أمه منذ ذلك الوقت. "شاهدت ابني بأم عيني بعد أن تم تعذيبه وتشويهه عندما أغاروا على بيتنا"، تقول وفاء." تلك كانت حصيلة 5 أيام من التعذيب... بعد 4 أعوام، كيف يعيش؟ ماذا فعلوا به؟".

قلب الصفحة

في الحالة العادية، تقوم العائلات بصحبة الشهود بتحديث وضع السجل المدني، وليس الحكومة ذاتها. تغيير السجلات يعكس تغيراً هاماً في السياسة. تقول لمى فقيه، المديرة المفوضة في هيومن رايتس وتش عن منطقة الشرق الأوسط، إنه مسعى تقوم به الحكومة السورية "محاولةً قلب الصفحة بطريقة بالغة السطحية"، بإغلاق الملفات سعياً لتجنب المسؤولية عن جرائم محتملة ضد الإنسانية. وتضيف لمى: "الحقيقة هي أننا لن نشهد فعلياً انتقالاً سلمياً إن لم نشهد المحاسبة على جرائم تم ارتكابها في هذا النزاع".

من بين العقبات الكثيرة التي تعترض طريق أية تسوية لما بعد النزاع، يشكل مصير عشرات الآلاف من المعتقلين الذين اختفوا في السجون الحكومية واحداً من أصعب الأسئلة. وبينما من المستحيل معرفة العدد الحقيقي للناس الذين قُبض عليهم أو أُخفوا قسرياً منذ أن بدأ النزاع، فإن عدد الحالات المؤكدة رسمياً يبلغ عشرات الآلاف. فحمَّل مركز توثيق الانتهاكات الحكومة السورية مسؤولية 66922 حالة على الأقل من حالات الاختفاء القسري منذ 2011، أي بنسبة 92% من كل الحالات الموثقة، بينما تقول الشبكة السورية لحقوق الإنسان إنه تم إخفاء 81652 شخصاً بين آذار 2011 وحزيران 2018. 

بالإضافة إلى حالات الإخفاء، اتُهم نظام الأسد أيضاً بارتكاب فظائع ضد المعتقلين، مع بعض الجرائم الأكثر شناعة، والمفصلة في تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية. فاتهم التحقيق حكومة الأسد بالتعذيب وتنفيذ إعدامات خارج نطاق القانون في سجن صيدنايا. وقال تقرير منظمة العفو إنه بين الأعوام 2011 و 2016 تم تعذيب بين 5000 و 13000 شخص في سجن صيدنايا فقط، قبل أن يحاكموا شكلياً محاكمات عسكرية لمدة 3 دقائق ويعدموا شنقاً.

الحصانة على ارتكاب الجرائم

في عام 2015 رصد المجتمع الدولي لمحة مرعبة عن عالم الاعتقال السفلي الذي تديره الحكومة السورية بفعل تسريب صور "قيصر". ففي آب 2013 قام منشق عسكري -اسمه الحركي "قيصر"- بتهريب 53275 صورة من أرشيف الحكومة السورية، تظهر فيها لقطات لأجساد معذبة على يد عناصر أمنية، ووفقاً لمنظمة هيومن رايتس وتش، أمكن التعرف على 6786 ضحية من بين صور هذه المجموعة  الضخمة. الأغلبية من هؤلاء الضحايا اختطفوا من قبل 5 فروع أمنية تعمل في العاصمة السورية.

أثارت الصور ضجة عالمية، وأطلقت عدداً من المبادرات الهادفة إلى تحقيق العدالة لأسر المعتقلين الذين قُتلوا في السجون الحكومية. وتعمل منظمات حديثة التأسيس، مثل (عائلات جمعية قيصر)، على تجميع أدلة وشهادات لمعتقلين من أجل الاستخدام في دعاوى مستقبلية. ينظر عبد الغني إلى الجولة الأولى لملفات القضايا المغلقة كتجربة تقوم بها الحكومة السورية لمعالجة بيروقراطية الاعتقال المنفلشة: "نعتقد أن النظام يحاول أن يسبر رد فعل المجتمع الدولي نحو سلوكه، فرد فعل ضعيف سيدفع الدوائر الحكومية لمواصلة تسجيل كل المفقودين بهذه الطريقة".

المحاكم الأوروبية

في ظل مبدأ الفضاء العالمي للمنظومة القانونية، الذي ينص على أن بعض الجرائم فيها من الفظاعة ما يكفي لأن تقوم المحاكم الأجنبية بالادعاء على الجناة، قام المدعي الألماني الأول في 8 حزيران بإصدار مذكرة توقيف بحق جميل حسن، بصفته رئيس فرع المخابرات الجوية، فالحسن يتحمل مسؤولية مباشرة عن بعضٍ من مراكز الاعتقال الأسوأ سمعة، التي يعتقد أن آلاف الأشخاص قد عذبوا وقتلوا فيها. لكن بالنسبة لعائلات المختفين وأمهات مثل وفاء الأيوبي، فإن الإجراءات القانونية في محاكم بعيدة لا تجلب سوى القليل من السلوى أثناء البحث اليومي عن إجابات حول ما حدث لأحبتهم.