يلاحظ المتتبع للخطابات واللقاءات الإذاعية والتلفزيونية للمثقفين والمحللين، وما يكتبونه في الجرائد التي تحجز لهم صدر صفحاتها وأعمدتها الأسبوعية، أن "الشعب" هي الكلمة المتكرّرة عندهم، وسيلةً وهدفاً وغايةً وتجارةً وغيرها من مهامٍّ تستكمل فيها هذه النخبة سمعتها وديكورها، وبكلماتٍ أخرى شرط وجودها.
ويتخيل كثيرٌ من هؤلاء، وخاصّةً منهم أصحاب التجارب السياسية السابقة، مئات الألوف -إن لم يكن الملايين- تقف أمامهم تصغي جيداً إلى كلماتهم الذهبية وتنتظر إيماءة يدٍ أو شارةً من العين للتحرّك وقلب الموازين واجتياح القصور لتوصل إليها أسيادهم الجدد: نخبتهم المثقفة والعارفة ببواطن الأمور وخفاياها. ويظنون أن الكثيرين ينتظرون ما يكتبونه منذ الصباح لشراء الجريدة والتمتع بقراءة كلماتهم واستخلاص العبر منها ومن ما بين سطورها.
تحمل هذه النخب السياسية العتيقة في ذهنها صورةً مشوّهةً عن التشكيلات البشرية، دون الخوض في تفاصيل وهموم ووقائع حياة هؤلاء البشر، صورةً مؤطّرةً لبشرٍ ينتظمون في كياناتٍ وجمعياتٍ لها قوانينها الناظمة والمحرّكة التي يعرفها هؤلاء القادة-النخبة. غير أن هذا مجرّد وهم، بالنظر إلى الوقائع القديمة والحالية التي كان للثورة السورية الفضل الكبير في كشفها ونبش المخفيّ منها، إذ أظهرت سير وحكايا ويوميات هؤلاء الناس الذين لم تعد تتوافر لهم أكثر من وجبةٍ واحدةٍ بسيطةٍ في اليوم، ويبقون لساعاتٍ طويلةٍ بلا كهرباء، يحمل أطفالهم أوعية نقل المياه لتغسل نساؤهم بقايا ثيابهم بقليلٍ منه، لا يعرفون الكثير من أنواع الشامبو ولا يرتدون البدلات المكوية جيداً؛ باختصار أولئك الذين انعدمت لديهم أساليب الحياة العصرية لكنهم يخترعون -أو يعودون إلى- أشكال حياةٍ تتلاءم مع ما هو متاحٌ لهم. وساعة تتيسّر لهم مشاهدة التلفزيون، ورؤية "قيادتهم" التي لا تنام وهي تبحث عن حلولٍ لمشاكلهم، يستمعون إلى كلماتٍ لا يعرفون مقاصدها لكنهم يضحكون كثيراً عندما ينهي "قادتهم" الحديث بكلماتٍ تعبّر عن شعورهم بالألم لأحوال مواطنيهم.
شعرت النخبة، وبعض المجموعات السياسية التي لم يسعفها الزمن ولا بقايا العقل الكلاسيكيّ أن تتغيّر بما يمكّنها من استيعاب المتغيّرات السريعة، بالسعادة عندما هتف الناس بشعار الثورة الأول: الشعب السوري واحد. فتعاملوا معه بانفعاليةٍ وخلطوا بين الواقع والحلم، ولم يعرفوا أن هذا الشعار هدفٌ كما إسقاط النظام أيضاً، في حين كانت الوقائع تتحدث عن أمورٍ أخرى كامنةٍ في الأعماق. إذ سرعان ما كسرت صيحات المتظاهرين قشرة الرعب التي كانت تجبر الناس على شكلٍ مزيفٍ من الوحدة، وكشفت الكثير من الاختلافات التي ترجع لأسبابٍ مصلحيةٍ وأخرى عرقيةٍ والأهم مذهبية، تبعاً لمروحة توزيع القمع واضطهاد النظام. ومع مرور الأيام انحسر الزخم الجماعيّ/الوطنيّ ليعود الناس ويتقوقعوا في مناطق ومساحاتٍ أضيق وفق الاعتبارات السابقة. ولم تستطع قوّة وأحقية الشعارات والمطالب أن تجتذب وتشرك أبناء الطائفة العلوية في الحركة العامة للثورة، بل اقتربت هذه الطائفة أكثر من النظام الذي يعدّها الركن الأساسيّ في سياساته التمييزية تجاه الآخرين. وسلكت مثلها بقية الأقليات وإن بصورةٍ أقلّ، إذ لم تشارك بصورةٍ مكثفةٍ كسابقتها في قمع المتظاهرين، واكتفت بالانسحاب والانتظار، مع ميلٍ واضحٍ لمصلحة النظام الذي كان يوفر لها القليل من الامتيازات والأمان.
وعلى المستوى الآخر، حيث التمايز العرقيّ العربيّ الكرديّ، وصل الشعور العميق بالاضطهاد لدى الأكراد وعدم الاعتراف بحقوقهم إلى حدّ "المظلومية" التي تمكن أحد الأطراف الكردية، المعروف بين الناس بـ"الحزب"، من تحويلها من مسارها المفترض تجاه النظام، الذي يضطهد ويقمع الجميع، إلى بداية شروطٍ عدائيةٍ تجاه أمثالهم من العرب المضطهدين بدرجاتٍ قد تفوقهم أحياناً. وتكرّس هذا بالانسحاب من الحركة العامة للمظاهرات، والاكتفاء بمناطق محددة، وتطبيق أنظمةٍ وتصوراتٍ حزبيةٍ ضيقة فهمها النظام جيداً، لا بل شجّع عليها، فاعتبر هذه المناطق مساحة أمانٍ له، تتيح له المزيد من القوّات لمواجهة البقية. وفي الوقت ذاته اعتبرها الثوّار وكتلتهم الكبرى حركة عمالةٍ للنظام.
وكانت النخبة تتعالى على كلّ هذه الأمور وتتجاهلها وفق خطابٍ ظاهره وطنيٌّ لكنه بلا حوامل وطنيةٍ حقيقية، عابرةٍ للطوائف والعرقيات والأديان، وهو، من جهةٍ أخرى، مرهونٌ لتنازع المصالح الإقليمية والدولية على أرضنا.
إن مهامّ النخبة الموجودة، أو التي ستوجد، هو الانطلاق من الوقائع لطرح المشروع الوطنيّ الذي لا يستبعد أحداً، بعقلٍ منفتحٍ ومتسامحٍ ومسؤول، بغضّ النظر عن التمركزات الحالية الناتجة عن العمر المديد للقمع الذي عفّن الروابط الوطنية.