داخل خيمة العزاب | عدسة زياد
في مخيم تل أبيض التركية "أكجكلى" للاجئين السوريين يوجد نمطٌ مختلفٌ للنزوح، إنهم العزّاب، وهم الرجال الذين خرجوا من سوريا دون عائلاتهم، لأسبابٍ مختلفة. يعيش هؤلاء في جناحٍ خاصٍّ من المخيم في ثلاث خيمٍ كبيرة، يقيم في كلٍّ منها 20 شخصاً، معظمهم في العشرينيات من العمر.
يمضون وقتهم بطرائق مختلفة، بحسب اهتماماتهم، وأسباب نزوحهم، ومدنهم وقراهم في سوريا. توفرت لبعضهم فرص عملٍ خارج المخيم بمتوسط 20 ليرةٍ تركيةٍ كأجرة عملٍ يومية، وامتهن البعض الآخر التجارة بشكلها البسيط، إذ يجلبون المعلبات والسجائر المهرّبة والألبسة المستعملة وغير ذلك من الحاجيات، ليبيعوها على بسطاتٍ في طرقات المخيم، محقّقين بذلك أرباحاً بسيطة لا يطمعون بأكثر منها، فأغلبهم من الأشخاص الذين يقنعون بالقليل.
يقول محي الدين، وهو مدرّس علومٍ يعيش في "العزّابية"، خرج من مدينة الأتارب في ريف حلب منذ أكثر من عامٍ نتيجة الظروف الصعبة التي تعرّضت لها هذه المدينة؛ إن نسبةً لا بأس بها من العزّابية هم من المنشقين عن جيش النظام، والذين لم يرغبوا بالمشاركة في العمليات القتالية.
ويضيف متأسفاً بأنه توجد نسبةٌ كبيرةٌ من شباب العزّابية يضيعون وقتهم هباءً دون أي نشاطٍ أو عملٍ أو فائدةٍ تذكر. فمنهم من يمضي معظم وقته في الخيمة، يعدّ السجائر التي أشعلها، ومنهم من يتسكع طوال اليوم بين أحياء المخيم ويعود في آخر النهار ليثرثر بالشائعات التي سمعها في مشواره اليومي.
وهناك نسبةٌ قليلةً هم الفئة المفيدة، كما يصنّفهم مدرس العلوم، لا يتجاوزون الـ 10 بالمئة من إجمالي العزّابية. منهم خريج أو طالب الجامعة، والمدرّس، وشبابٌ آخرون لهم نشاطاتٌ ثقافيةٌ وعامةٌ وغير ذلك. ومنهم من يعمل في الأقسام الإدارية، كهيئة الشؤون الإنسانية التي تشكل صلة وصلٍ بين قاطني المخيم والإدارة العامة.
ويرى محي الدين أن وجوده هنا أفضل من وجوده في سوريا؛ ففي "ضيعتنا"، كما يقول، المدارس لا تعمل، والطلاب لا يذهبون إليها منذ حين، أما في مدرسة المخيم فيوجد حوالي 200 طالبٍ في المرحلة الثانوية. وقد وجدت نفسي مفيداً أكثر بوجودي هنا.
الخدمات في حي العزّاب أفضل حالاً منها في باقي أحياء المخيّم، فتشاهد بعض الأطفال وقد جاؤوا من أحياء العائلات ليملؤوا الماء نتيجة انقطاعه عندهم. ويلجأ بعض الرجال من تلك الأحياء إلى استخدام الحمامات الخاصة بالعزّابية، لوفرة الماء الساخن. كما أن الفئة العمرية لها دورٌ كبيرٌ في الحفاظ على النظافة العامة في الحمامات أو الخيم، هكذا أخبرنا أبو محمد، وهو رجلٌ في الخمسين خرج من حيّ الميدان الدمشقي منذ عامٍ ونصف، بعد أن قام بتأمين أهله هناك. يعمل أبو محمد كـ"مختارٍ" لجناح العزّابية، وتتضمّن مهامه الإشراف على الخيم من ناحية الخدمات، وتنظيم إجازات الخروج، وبعض الأمور الإدارية الأخرى.
أما "الحاج ميسّي"، كما يسميه قاطنو هذا الحيّ لرشاقته وحضوره المحبب، وهو أكبر العزّاب في الجناح، بعمرٍ يناهز الستين عاماً؛ فقد نزح إلى مخيم اللاجئين منذ بدء العمليات القتالية في تل أبيض على الجانب السوري من الحدود. ويبدو هذا الرجل الظريف كارهاً للحرب ومحباً للهدوء والسلام، وهو الذي عمل لسنواتٍ طويلةٍ في مجال البناء. يلقى ميسّي كل المودة والاحترام من جميع سكان العزّابية والمسؤولين في الأقسام الإدارية. ويعلق أحد الشبان: "كلام الحاج ميسّي لا يُردّ عند الجميع".
ويمتــاز هذا الرجل بروحـه الفكاهية العالية. ويظهـــر هذا من خلال اللافتــــة التي كُتب عليهــا "مــمـــنـــوع التدخين" قبل أن يعدّلهــا بحـذف أول حرفـــين لتصبح "نَوِّع التدخيــن"، إذ يؤكد ميسّي علـــى أهمــــية التدخين في مثل هذه الظروف الصعبة حين سألناه عن هذه العبارة.
لم يخبرنا ميسي عن موعدٍ يتنبأ به للعودة إلى سورية،
واكتفى بالقول: "بس تخلص الحرب إن شاء الله نرجع". وبعد ذلك أشعل لفافة تبغٍ وهو يتفقد نزلاء خيمة العزّاب الكبيرة بنظراتٍ أبوية.